مشكلة بعض فقهائنا تكمن في أنهم يرددون ما يصب في آذانهم من قبل طلابهم، دون أن يحاولوا أن (يستنيروا) برأي آخر من طرف مستقل، وغير (مسيس)، ليس له غايات وصولية وانتهازية في الإساءة للآخرين. كثير من فقهائنا - للأسف - يجعل منهم بعض (الحركيين) مجرد (جسر) للوصول إلى غايات سياسية، فهم يمجدونهم، ويوقرونهم، ويرفعون من قيمتهم، ليس حبا فيهم، ولا اقتناعا بما يحملونه من علم، أو فكر، أو ثقافة، وإنما لأنهم يحملون قيمة اعتبارية (اجتماعية) إما بحكم مناصبهم، أو بحكم أعمارهم، فيستصدرون منهم الفتوى، أو الموقف، أو كتابة (الخطابات) إلى ذوي الشأن، لدعم صراعاتهم، وطموحاتهم السياسية؛ أو قل: التسلطية، ثم يوظف المستصدِرون - بكسر الدال - فتاوى المستصدَرين - بفتحها - توظيفاً حركيا محضا؛ والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
من يقرأ لي يتضح له أنني أطرح رأيا أحاول فيه أن يكون مؤصلا تأصيلا شرعيا، وله ما يدعمه إما من كتاب الله، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو قول فقيه يعتد برأيه، أو مصلحة راجحة، أو حادثة تاريخية، أو حجة منطقية. وأبذل لتحقيق ذلك جهدا في البحث والتوثيق؛ ومع ذلك يحاول بعض (الصغار)، الذين لبعضهم حظوة لدى بعض طلبة العلم أن يصوروا ما أكتب على أنه محاربة لله ورسوله، ودعوة إلى تهميش الدين، واعتراض على تحكيم الشريعة. سؤالي: هل فقهاؤنا يقرؤون، أم يقرأ لهم؟ والسؤال الثاني: هل هم إذا كانوا لا يقرؤون حولهم ممن يقرأ نيابة عنهم من هو أهل للثقة، مؤتمن، يقول الحق مجردا دون أن يكون لموقفه الشخصي من الكاتب دخل في نقل ما يكتبه إلى من لا يقرأ؟
لا يمكن أن تكون (علمانيا) وأنت تستشهد بقال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحاجج من هذه المنطلقات. الذي يهمش الشريعة، أو يدعو إلى تهميشها، فإن أول ما يطرح: (ضعوا الشريعة جانبا وتعالوا نتناقش). وأمامكم ما كتبت، وما أكتب، أريد من أولئك الذين يتهمونني بأنني أهمش الدين أن يأتوا لي برأي دعوت فيه إلى تهميش الشريعة، ووضعها جانبا.
أن أكون ضد فكر، أو تفسير، أو رأي، أو اجتهاد، أو قياس، (لرجل ما)، علا شأن هذا الرجل أو دنا، لا يعني أن أكون ضد الإسلام، وضد الشريعة، أو ضد تحكيم الشريعة.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإنني لا أجد خطرا على هذا الدين إلا من أولئك الذين يتصرفون، ويتعاملون مع الآخرين، من منطلق أنهم ولا أحد غيرهم يمتلكون الحقيقة، والتفسير الصحيح، ولهم - بالتالي - حق الوصاية، لأنهم (الموقعون عن رب العالمين). السبب أن هذه تصب في النهاية - حتى ولو لم يقصدوا - في تحويل الإسلام إلى دين كهنوتي كما هو الوضع عند المسيحيين. وقد روى البخاري - كما في شرح العقيدة الطحاوية - قال: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل فسأله عن مسألة فقال: قضى فيها رسول الله كذا وكذا: فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله؛ تراني في كنيسة؛ تراني في بيعة؛ تراني على وسطي زنار؛ أقول لك قضى رسول الله وأنت تقول ما تقول أنت؟
ودولتنا بحمد الله وكرمه قامت، ونشأت، وترعرعت، وستستمر، (بتطبيق الشريعة)، وليس تقديس (الرجال). ولا أقول الرجال واجتهاداتهم؛ أما العلمانية فكل من يتهم الآخر بها، فهو بالضرورة المنطقية يسعى إلى إقامة (كهنوت إسلامي)، أو (ولاية الفقيه)؛ ويخشى عندما ننقد الرجال أن نهد مشروع (الفاتيكان) الإسلامي الذي يسعى بكل همة إلى بنائه.
لا علمانية إلا في وجود الكهنوتية، ولا قدسية للرجال؛ وطالما أن الكهنوتية أمر يرفضه الإسلام فلا حاجة أصلا للعلمانية. إلى اللقاء.