اعتدت دائماً أن أحتضن آلة العود لأغني شعر (محمود درويش) ويبدو أنه لا بد من الكلام وحده، حين يأتي ليقول عن علاقتي بشعر (درويش).
من جهةٍ ثانية لم أحب أن أرتجل (بعضاً من الحكي) عن ذلك الشعر الجميل، فوجدت أنه لا بد من كلمة تكتب فكتبت: تعرفت على شعر (محمود درويش) عبر قراءات موسيقية شبه صامتة للقصائد الأولى، وكانت تلك المقاربات الموسيقية للقصائد يغلب عليها طابع الحذر حتى الخوف، الخوف المصاحب دائماً لأي مشروع جديد. بخجل وتردد رحت أعرض تصوري لضرورة غناء تلك القصائد.
وفي صباح يوم باكر من شهر آب- أغسطس لسنة 1976 دخلت أحد استوديوهات باريس الصغيرة.
ولم يكن معي سوى العود وأمي وريتا وجواز سفر وكانت أول تظاهرة لأسطوانة (وعود من العاصفة) على خشبة الجناح اللبناني في مهرجان الإنسانية بباريس مع أول أيلول- سبتمبر لسنة 1976 بالقرب من بسطة الحمص والفول والفلافل.
لقد استعرت آنذاك من محمود درويش تلك النصوص ووضعت لها موسيقى على النبض الدرويشي، وذلك بإعطاء بعد موسيقي مستقل عن الكلمة سواء من الناحية الميلودية أم الإيقاعية أم التوافقية فكان هناك عالم صوتي يتشكل من بعدين موسيقي وشعري لينبثق من استقلالهما وحدة فنية.
لسنين طويلة ارتبطت موسيقاي بشعر محمود درويش، فتآلفت أعمالنا في ذاكرة الناس حتى صار اسم أحدنا يستذكر آلياً اسم الآخر، ولا عجب في ذلك، فكل محطات مساري الموسيقي، لثلاثين عاماً مليئة بالإشارات من إلى أعمال درويش. بدءاً بـ(وعود من العاصفة) وصولاً إلى (يطير الحمام).
فمنذ أولى محاولاتي وقبل أن يتعرف أحدنا إلى الآخر، كنت أحس بأن شعر درويش قد أنزل عليَّ ولي.
فطعمُ خبز أمه كطعم خبز أمي، كذلك عينا (ريتاه) ووجع يوسفه من طعنة اخوته، وجواز سفره الذي يحمل صورتي أنا، وزيتون كرمله، رمله، وعصافيره، سلاسله وجلادوه، محطاته وقطاراته، رعاة بقره وهنوده... كلها كلها سُكناها في أعماقي.
فلا عجب أن آلفت موسيقاي أبياته بشكل طبيعي، دونما عناء أو تكلف، يقيني أن شعره كُتب لأغنيه، لأعزفه، أصرخه، أصليه، أذرفه.. أحكيه ببساطة، على أوتار عودي، وإذا ما أشركت كل آلات الأوركسترا مع كلماتي وصوتي، طلع ذلك الإنشاد الذي يهز ويواسي، يحث ويقاوم.. في أوراقي الموسيقية اليوم مكان لشعر درويش أكثر حضوراً مما كان عليه.
أمزحة الأمر أم مزاجية عبثية؟ لا هذه ولا تلك بل شيء كزهرة أتطاول إليها بيدي منذ زمن ولا أتجاسر، واليوم فأنا مستعد وسأجرؤ لأغني ألماً يلجمه النبل والخفر عن الصراخ والأنين، ولأرمز شعره في نظام أصوات ونبرات وإيقاعات.
لشعر محمود درويش مذاق خاص، فهو مرتبط بذلك العالم المسور بالدمار وأمل القيامة الأخضر وفي شعره دعوة منعشة إلى الحياة.
قصائد درويش بشوشة وفرحة كالنهار الذي ننتظر قدومه ومليئة بالأمل كالساعة التي لم نعشها بعد. والحزن الواضح النبرة أحياناً خلق صلة بشرية حميمة وتعاطفاً إنسانياً بالأشياء والرموز.
مع شعر محمود درويش تعرفت على نفسي كفرد لي أهوائي ونوازعي ووساوسي وحاجاتي الملحة للحرية وللخبز وللورد ولقول الأنا دون خجل.
محمود درويش يحفر الصخر بأظافره حتى الوجع الوحشي كي يجد القصيدة الطازجة دائماً.
* نشرت هذه الزاوية في العدد 143 لمجلة (الجزيرة) الثقافية بتاريخ 6 مارس عام 2006م في إصدار خاص عن الفقيد محمود درويش