بدءًا، أجبتُ للمرة الخامسة أو السادسة معتذرة.. (لا شيء لدي أقوله عن محمود درويش).
أذكر قول كوكتو في فيلم صوّر فيه مسبقاً موته، قال ونعشه يمر بين أصدقائه (لا تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء فالشعراء لا يموتون إنهم يتظاهرون فقط بالموت!).
طبعاً، ثمة شعراء توغلوا فينا، ويحلوا لهم أن يتظاهروا أحياناً بالحياة ليختبروا حبنا لهم.
أتوقع أن نزايد على بعضنا بعضا في هذا المجلس من حيث محمود درويش، وتكريمه بمناسبة (حياته).
شخصياً لا أدري كيف أقول له: إنني أحبه. كي تقارب محمود درويش تحتاج إلى الكم إياه من الحزن الشاهق والموهبة الخارقة.. والاستخفاف الجميل.! إضافة إلى كوني لا أملك مؤهلات اللؤم الذكي أو الذكاء اللئيم الصاعق الذي يتوهج به فتى الحزن المدلل، مُذ التقيته أول مرة في بداية السبعينيات في الجزائر على أيام (سجل أنا عربي) وحتى آخر لقاء لنا منذ سنة في فرانكفورت.
دوماً كنا (عابرون في زمان عابر). إلى أن أقحمنا مكرهين قبل ثلاث سنوات في كتاب منمق مثير جمعنا بين دفتيه مع فقيدة الشعر الفلسطيني فدوى طوقان، تحت عنوان تحريضي تجاري.. ناري (إسرائيليات بأقلام عربية).
بدءاً حزنت. ثم سعدت لوجود ذلك الكتاب ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في معرض بيروت الدولي.
كانت الصفقة مربحة، صاحبته كسبت بتشهيرها ما كانت تسعى إليه من شهرة، وأنا فزت منه بإشاعة موثقة وملفقة في كتاب أتقاسمها مع رمزين للنضال الفلسطيني والعربي.
جميل أن تقتسم مع محمود درويش إشاعة حتى وإن كانت إشاعة تخوين. خاصةً أنني أقتسم معه بعض أحرف اسمه عندما يهجئها بذلك الكم من الألم: (ميم - المتيّمُ والميتَّمُ والمتمّمُ ما مضى. حاء - الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان. ميم - المغامر والمُعدُّ المستعدُّ لموته، الموعود منفياً، مريض المشتهى). لا أدري إن كان محمود درويش مغامرا حقاً، كل مجازفاته كانت مدروسة، وخسائره ظلّت معدودة دوماً بفضل الكتابة.
لكنه رغم ذلك كان أقلنا جُبناً وأكثرنا نزيفاً، وهو يجذف من دون وجهة محددة، فقد عاش مهدداً بالماء.. ومهدداً باليابسة.
لا يدري أتكمن فاجعته في الطريق.. أم في الوصول. على مدى نصف قرن جذّف محمود درويش بيد واحدة مجذافها قلم.
لذا أحبّه نزار قباني وأعترف لي مرة أنه لا يحتفظ في مكتبته سوى بدواوين محمود درويش من بين الشعراء المعاصرين، حتماً كان يحتاج ناره وقوداً للكلمات، فعندما لا يضرم فيك النار يوفر لك محمود درويش حطب الأمثلة.. أو بنزين الألم. هو (العاشق السيئ الحظ) سيورطك في سوء حظه الذي ليس سوى سوء حظك العربي. وعليك أن تجيب - دون الاستعانة بصديق.. بل بمؤرخ - (لماذا تركت الحصان وحيداً؟) ربما تكتشف آن ذاك أن الحصان هو الذي تخلى عنك.. لأن (الحصان يعرف راكبه) حسب المثل العربي! الشاعر الذي (يرى ما يريد) يجعلك تتساءل (وماذا لو أنك أردت ما يرى؟) وماذا لو كان (سرير غريبته) هو مخدعك وسرير حبيبتك.
كيف يتسنى له التحرش بها في مخدع الكلمات وهي لك. لا يحتاج محمود درويش أن يقول شعراً لتشرئب شقائق النعمان برأسها، بإمكانه أن يفعل ذلك بمجرد حضوره اللامبالي وسط الحقول. اللامبالاة حالة تحرّش عاطفي أكثر خبثاً من أن تعلن عن نفسها. الشاعر المارد الذي كلما كبر قلمه.. صغر قلبه وبدا كأنه من عليائه يستنجد بنا.
هو يدّعي أنه يريد منا (ورداً أقل) ونحن نعترف أننا ننتظر منه خسائر أكثر فداحة.. وحنيناً مدمراً كإعصار.. ننتظر مزيداً من البكاء على كتف قصائده.
*نشرت هذه الزاوية في العدد 143 لمجلة (الجزيرة) الثقافية بتاريخ 6 مارس عام 2006 م في إصدار خاص عن الفقيد محمود درويش
* الجزائر