كلما استمعت إليه يلقي شيئاً من أشعاره..
مشدوداً إلى جمال إلقائه، وإلى لغته الجميلة..
وتطلعت إلى حركة أو إيماءة من رأسه..
وإشارة من يديه وعينيه أو التفاتة منه إلى جمهوره يميناً أو يساراً..
تأكدت وكنت على يقين لحظتها بأني أمام شاعر عملاق.
* * *
حيث يجيد الإلقاء..
مثلما يجيد الشعر..
مثلما يطوِّع الكلمات..
ويوظِّف نبرات الصوت..
ويستخدم كل أجزاء وأعضاء جسمه برشاقة وفي منظومة جميلة لخدمة كلماته الشاعرية وتغنيه بها.
* * *
وكلما بحثت عن شاعر مجيد ومبدع..
ينتقي الكلمة الجميلة..
والعبارات المموسقة..
وجدته أمامي وبالقرب مني، وكان هو - لا غيره - الشاعر والفنان الكبير الذي اسمه محمود درويش.
* * *
أكتب هذه السطور المتواضعة عن شاعر عربي فحل..
كتب القصيدة في سجن العدو فأجاد..
وفي الفضاء الرحب مع الأحرار في العالم فتفوَّق..
وكتبها مبدعاً ومتفوِّقاً بالأرض المحتلة تحت الاحتلال البغيض..
وحيثما كان طريداً أو مهجَّراً أو تائهاً في بلاد الغربة، فقد ظل يغني لوطنه ليبقى هو الشاعر والمثقف وصاحب القضية التي لن تموت.
* * *
هذا إذاً هو محمود درويش بخصلات شَعره الناعم يتدلَّى على جانبيه وعلى عينيه..
مثلما ينساب شِعره، ويتسلَّل ويهاجر إلى الأصحاء في العالم..
ومثلما نغنيه ونتذوَّقه ونبحث عنه بين دواوينه، وحيثما كانت له أمسية شعرية في هذه الدولة أو تلك.
* * *
محمود درويش شاعر فلسطين..
وشاعر العرب..
إنه من تُرجمت أشعاره، ودُرست..
من جدّد وطوّر في قوالبه الشعرية، فحاكاه مَنْ حاكاه، وقلَّده مَنْ قلَّده، واقتفى أثر شعره مَنْ اقتفى أثره من الشعراء ومَنْ يقال إنهم من الشعراء.
* * *
محمود درويش، هذا الشاعر العَلَم، اقرؤوا شعره جيداً؛ فهو يعبر في شعره عن المحروم، ويُنشد لصالح المظلوم..
إنه بمثابة لسان حال مَن له قضية ولم يصل صاحبها إلى حل لها بعد..
يؤجج في شعره المشاعر، ويزرع الحماس والثقة، ويسلح العزَّل بكلمات أقوى من الرصاص، ليُبقي كل قضية عادلة حيَّة ومشتعلة إلى أن ينهزم الظالم وينتصر الحق والعدل.
* * *
ومحمود درويش بعد كل هذا، صديق - ولو عن بُعد - لكل من لديه ذائقة فنية وقرأ أشعاره فتذوّقها واستمتع بها..
صديق لكل من عاش تحت وطأة الظلم، وسطوة الجلاَّدين، واكتوى بنار القتلة ومصاصي دماء الأبرياء؛ ففي دواوينه وأشعاره من الجواهر ما يعزِّز صبر هؤلاء وصمودهم إلى أن ينتصروا على هذا الظالم وينتقموا من ذاك الجلاَّد.
* * *
وبعد: لقد ولد هذا الشاعر محروماً من الوطن الحبيب، مشرداً من الأرض وبعيداً عن الأهل، ومغيّباً عن كل ما يهواه قلبه ويحبه، تائهاً غريباً وجريحاً، وهو الشاعر الكبير الذي ظل منذ صباه يبحث عن أي أرض تعوّضه عن أرضه، وعن هواء يغنيه عن هواء وطنه؛ فلا يجد غير الشعر يعبِّر به عن إصراره على أنه لا بديل لفلسطين في أي بقعة في هذه الأرض لتكون وطناً له يغني لها من أشعاره ويناجيها بكلماته ويمنحها ما يحتفظ به من حب وود وعاطفة لفلسطين وأهل فلسطين.
* * *
تحية للشاعر الكبير محمود درويش؛ إذ أعطانا من وقته ما ساهم في إنجاح هذا المشروع الثقافي الذي ينمّ عن وفاء زملائه ومحبيه وإعجابهم بشعره، بما وضعه في مستوى التقييم الذي تحدث به بعض رموز الفكر والثقافة العربية لهذه المجلة، وبعضهم في تصنيفنا يعدون من القمم والشوامخ الذين يعتد بآرائهم ويعتمد عليها في مثل هذا التقييم.
* نشرت هذه الزاوية في العدد 143 لمجلة (الجزيرة) الثقافية بتاريخ 6 مارس عام 2006 م في إصدار خاص عن الفقيد محمود درويش