Al Jazirah NewsPaper Friday  01/08/2008 G Issue 13091
الجمعة 29 رجب 1429   العدد  13091
العلاقات عبر الأطلسية والمأزق الجديد
ديفيد ب. كاليو

إنّ الرحلة التي قام بها السيناتور باراك أوباما مؤخراً إلى أوروبا، تعني أنّ عضو مجلس الشيوخ هذا من ولاية إلينيوز، وقع عليه اختيار أوروبا ليصبح الرئيس القادم للولايات المتحدة. ولكن يتعيّن على الأوروبيين ألاّ ينتظروا أكثر مما ينبغي.

فرغم أنّ أوباما سوف يكون حريصاً على إعادة الكياسة والتهذيب إلى الحوار بين ضفّتي الأطلنطي، إلاّ أنّ أسباب الاحتكاك ما زالت عميقة. فقد شهدت المصالح الجغرافية السياسية لكلٍّ من أوروبا والولايات المتحدة تباعداً متزايداً أثناء السنوات الأخيرة، وقد تستمر الحال على هذا المنوال أياً كان رئيس الولايات المتحدة القادم.

إنّ إنهاء هذه الحالة من التنافر يتطلّب إحداث تغييرات كبرى في وجهات النظر والسياسات على كلٍّ من جانبي الأطلنطي. فلسوف يكون لزاماً على الولايات المتحدة أن تكفّ عن تعريف مصالحها الأطلسية على أساس عقلية الهيمنة، ولسوف يكون لزاماً على أوروبا أن تتولّى المسئولية كاملة عن منطقتها.

حين نطلق على المصالح وصف (جغرافية سياسية) فإننا بهذا نسلِّط الضوء على مدى تأثير الجغرافيا على صياغة تلك المصالح. وكما اتفق شارل ديغول ووينستون تشرشل ذات يوم، فرغم كل شيء تظل بريطانيا العظمى جزيرة، وتظل فرنسا (شبه جزيرة)، وتظل أميركا (عالماً آخر).

ولقد أدرك كلٌ منهما أنّ القناة الإنجليزية ظلّت لقرون من الزمان تشكل حاجزاً جغرافياً سياسياً مخيفاً أمام المشاركة الدائمة بين بريطانيا وفرنسا في المصالح.

وإذا كانت هذه القناة الضئيلة نسبياً تشكل حاجزاً بهذا الحجم، فإنّ الروابط الدائمة بين ضفتي الأطلنطي تبدو غير محتملة. ومن هذا المنظور، نستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن أغنى وأقوى كيانين اقتصاديين على مستوى العالم، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، محكوم عليهما بأن يظلا خصمين إلى الأبد، حتى ولو تحالفا. كان ظهور عدو مشترك سبباً في تعزيز ودعم تحالف أميركا مع أجزاء من أوروبا طيلة القسم الأعظم من القرن العشرين. بيْد أنّ ذلك العدو كان أوروبياً أيضاً - ألمانيا أولاً، ثم روسيا.

وفي الواقع العملي كانت المصلحة الجغرافية السياسية المشتركة بين ضفتي الأطلنطي تتركز بين الولايات المتحدة وجزء من أوروبا ضد جزء آخر منها. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، أصبح التحالف بين ضفتي الأطلنطي في مواجهة حقائق جديدة.

وتكبّد الجانبان ثمناً باهظاً لإعادة تعريف مصالحهما. ففي ظل غياب الجيش السوفييتي الضخم الذي كان متمركزاً في وسط ألمانيا، لم تَعُد أوروبا مقسمة بين غربية وشرقية.

فعاد تعبير أوروبا الوسطى إلى الحياة من جديد، وتوحّد شطرا ألمانيا. وتطورت أوروبا الغربية من (مجموعة) إلى (اتحاد) وأصبحت بلدانها أقل ارتباطاً بالحماية الأميركية. شجع زوال الاتحاد السوفييتي النخبة السياسية في الولايات المتحدة على تأسيس وجهة نظر (أحادية القطبية) في التعامل مع موقف أميركا ومصالحها في العالم.

ولقد تسارع هذا الميل حين حاولت إدارة بوش الحالية بناء نطاق من الهيمنة العالمية الأحادية تأسيساً على (الحرب ضد الإرهاب)، التي استفزت انزعاجاً متنامياً في (أوروبا القديمة).

ورغم أنّ غزو أميركا لأفغانستان اعتُبِر مبرراً على نطاق واسع، إلاّ أن الغزو الأنجلوأميركي للعراق أسفر عن صدع مفتوح بين الولايات المتحدة وحليفتيها الرئيسيتين في أوروبا، فرنسا وألمانيا، اللتين ساندتهما روسيا والصين.

وهكذا بدون مقدمات ظهرت كتلة أوروآسيوية عظمى في معارضة طموحات الهيمنة الأميركية على العالم، الأمر الذي أدى إلى تميع العلاقات الجغرافية السياسية، وزلزلة المواقف. بيْد أن تأثير المقاومة الفرنسية الألمانية للهيمنة الأميركية تعزّزت بردود أفعال دول أوروبية أخرى. ولقد بذل وزير خارجية بريطانيا السابق توني بلير قصارى جهده لإعادة العلاقة الخاصة التي كانت بين تشرشل وأميركا إلى الحياة، وانضمت إلى بريطانيا كل من إيطاليا وأسبانيا، وأغلب بلدان أوروبا الجديدة.

ولم يعد بوسع الثنائي الفرنسي الألماني أن يتحدث باسم الاتحاد الأوروبي ككل لمدة طويلة.

وأصبح المشروع الأوروبي لتوحيد السياسة الخارجية والأمنية وتوثيق أواصر التعاون الدفاعي في حكم المستحيل. إلاّ أن أوروبا بدأت في التحول البطيء نحو تبنِّي موقف أكثر تماسكاً في معارضتها للسياسات الأميركية أحادية القطبية، وطموحاتها في فرض هيمنتها على العالم. وبعد إعادة انتخاب بوش في العام 2004 أصبح أكثر ميلاً إلى الاسترضاء.

ثم بعد رحيل بلير أصبح بوش أكثر انعزالاً على الصعيد الدبلوماسي، ولم يسفر تغيير الحكومات في عواصم مثل برلين وباريس، إلاّ عن تحسن سطحي طفيف.

كما كان تدهور الظروف الاقتصادية في الداخل سبباً في فرض قيود أكثر صرامة على التدخلات الأميركية في الخارج.

إنه لمن الصعب أن نعرف إلى أين قد يقود هذا الانفراج القَلِق في العلاقات بين ضفّتي الأطلنطي والذي شهده العام 2008. إلاّ أنه من الواضح الآن أن المصالح الجغرافية السياسية الأوروبية والأميركية ليست في انسجام .. إذ إنّ الأوروبيين لا يقبلون رؤية إدارة بوش الإستراتيجية، والولايات المتحدة عاجزة عن ملاحقة هذه الرؤية دون دعمٍ من أوروبا. إنّ أبرز أسباب ارتداد أوروبا هي في واقع الأمر جغرافية سياسية. فإلى الشرق من أوروبا تقبع روسيا، وإلى جنوبها يمتد العالم الإسلامي.

وأوروبا تحتاج إلى إقامة علاقات طيبة مع كلٍ من الكيانين، حتى تتمكن من اختراق الأسواق النامية، وتأمين الموارد من المواد الخام والطاقة، وضمان استقرارها الداخلي، بينما يعتقد العديد من الأوروبيين أنّ السياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة، أدت إلى تغريب وتنفير روسيا والعالم الإسلامي.

وكل هذا يعني أنّ التحالف عبر ضفّتي الأطلنطي ما زال قائماً بفعل القصور الذاتي، وليس بدافع من مصالح مشتركة حقيقية.

ولكن هل بوسع أي شيء أن يعيد الانسجام إلى العلاقات عبر ضفّتي الأطلنطي؟ قد يكون في عودة الطموحات الإمبراطورية الروسية إلى الحياة، أو حرب الحضارات مع العالم الإسلامي، ما يشكل تهديداً يدفع أوروبا المرتعبة إلى استئناف اعتمادها على أميركا كما كانت الحال في أيام الحرب الباردة. إلاّ أنّ أوروبا ليست ميالة بأي حال إلى قبول مثل هذا المستقبل.

وقد يكون من الحكمة ألاّ تعمل أوروبا على عزل أميركا، إلاّ أنها سوف تضطر إلى النضال من أجل بناء علاقات تعاونية وثيقة مع جاراتها الإقليمية. لا شك أنّ تعريف أميركا لدورها الذي تضطلع به في العالم ربما يتغير. إذ إنّ كل الأحداث التي جرت مؤخراً كانت متعارضة بشكل واضح مع طموحات الأحادية القطبية. بل إنّ الولايات المتحدة ذاتها تشهد الآن قدراً عظيماً من المعارضة لهذه الرؤية. بيْد أنّ السلطة المتكتلة في واشنطن، أعظم من أن يتم احتواؤها بنجاح في إطار بنية دستورية وطنية محضة. فالضوابط والتوازنات في الداخل تتطلّب وجود توازن متلازم معها للقوى في الخارج.

والحقيقة إن نجاح أوروبا في بناء مثل هذا النظام المتوازن على المستوى الإقليمي، كان من أعظم إنجازاتها في مرحلة ما بعد الحرب. ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى أن نجاح أوروبا في تطبيق هذا النظام، كان معتمداً إلى حد كبير على أميركا التي لم تبخل بدعمها. وربما حان الوقت كي ترد أوروبا الجميل. ويبدو أنّ التوازن في تسديد الحسابات أمر ضروري دوماً حتى بين الأصدقاء.

وغالباً ما يكون تسديد الحسابات بين الأصدقاء أوفر حظاً في النجاح. ولكن لا ينبغي لنا أن نجزم بأنّ أوروبا قادرة على توفير الإرادة والوسائل والثقة اللازمة للاضطلاع بهذا الدور.

والأمر الواضح أنّ أوروبا المتماسكة القوية التي تتمتع بعلاقات طيبة مع جيرانها لن تجد لها مكاناً سهلاً في تحالف أطلنطي وثيق، بينما تحرص أميركا بكل قوة على ملاحقة طموحاتها في فرض هيمنتها على العالم.

***

ديفيد ب. كاليو أستاذ كرسي دين أكيسون ومدير الدراسات الأوروبية بكلية بول هـ. نيتز للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة هوبكنز.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت - عالم أوروبا، 2008.

www. project-syndicate. org

خاص بالجزيرة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد