المنطقة تواجه في الوقت الراهن موجة إعصار سياسي وأمني وعسكري قادم، موجة حرب قد لا تبقي ولا تذر ولن ترحم، ففي الحرب تختلط الأمور وتختنق حقائق الواقع بعد أن تتشرب بترياق الغضب والعنف وسوء الفهم. هذا ما نلحظه من حركة السياسة الإقليمية والدولية في المنطقة بعد أن وصلت أزمة الملف الإيراني النووي إلى قمة التعقيد والتشابك وعدم وضوح الرؤية تقريباً لكافة الأطراف المعنية بالأزمة: الغرب، إسرائيل، وإيران.
إيران تلعب من أجل كسب الوقت لفرض أمر واقع، والغرب يدرك ذلك تماماً بيد أنه لا يوجد اتفاق بين دوله الرئيسة لآلية وكيفية وطرائق التعامل مع إيران وملفها النووي، فالدول الأوروبية تصر على اتباع الحلول الدبلوماسية السلمية مدعومة بعقوبات دولية، فيما لا تستبعد الولايات المتحدة ضرورة - إن لم يكن حتمية - اللجوء إلى الخيار العسكري الاستباقي من تلك الحلول إن تطلب الأمر ذلك. من جانبها تدرك إسرائيل تماماً بدورها حركة السياسة الإيرانية وبمنظورها لا حل للأزمة إلا بالخيار العسكري، وهو أمر يتخوف منه الجميع حتى واشنطن. فربما ترضخ إيران أخيراً وتستسلم وتنهي برامجها النووية كما حدث مع كوريا الشمالية.
الذي يمكن أن يربط بين جميع مكونات الواقع الرمادي هذه هي الحقائق التي يتشكل منها ذلك الواقع أياً كانت تلك الحقائق، فوعيها كما هي كائنة أسلم بكثير من محاولة التعرف عليها كما يجب أن يكون أو تكون عليه. إذ هناك حقائق لاغنى عن تيقنها لصانع القرار السياسي إطلاقاً، كما وتوجد حقائق أخرى لا يمكن لأي عاقل أو حكيم تجاهلها أو التغاضي عنها ولو لبرهة من الزمن، والأهم من ذلك كله لا يمكن التغاضي عن الحقائق التي يتطلب الأمر الحالي والوضع الملتهب برمته حتمية البحث عنها بدقة لمعرفة ماذا يحدث؟ وكيف حدث ما حدث؟ متى ينتهي الحدث؟ وكيف ينتهي؟ ولصالح من؟.
لا ريب أن الامتناع أو محاولة النكوص عن معرفة الحقائق أو حتى محاولة التمرد على واقع الحقائق ناهيك عن محاولة رفض الاعتراف بها ولو على الأقل لبلورة مستوى واقعي ومحدد ومقنن من الإرادة الفردية والجماعية لتقبلها والتعايش معها، يعد عاملاً رئيساً من عوامل الفشل وتدهور الأزمة ودخولها في نفق العنف. فرفض التعرف على الواقع كما هو دون تشويه أو تضليل ومن ثم الانتقال نحو تصحيحه وتحديثه وتطويره من البداية إلى النهاية يعد حالة خطيرة من دواعي دهورة الوضع إلى الحال الأخطر.
الذي نعنيه أن الأزمة الإيرانية الحالية مع الغرب وإسرائيل حقيقة من حقائق المنطقة وواقع موجود لا يمكن التغاضي عنه، أضف إلى ذلك أن الواقع السياسي والعسكري الذي لا يمكن استبعاد حدوثه جراء الأزمة هذه نتاج لنسيج الواقع الإقليمي للمنطقة بكافة أطيافه وألوانه وحقائق تاريخه، وبالتالي فإن الجزء مكمل للكل حتى وإن كانت هناك فروقات جزئية أو نوعية بين البينين.
بيد أن منطق العقيدة أو الأيديولوجيا مدعماً بالتجارب السياسية والاحتكاكات العسكرية دائماً ما تسهم في اكتساب معالم وسمات ومواصفات خاصة لكل جزء من الأجزاء ليلعب عامل الزمن في نموها وتطورها إلى فروقات جوهرية تسهم في تحقيق التباعد بين الجزء والكل ربما إلى حد القطيعة. هذا ما يفسر الواقع الحالي للأزمة النووية الإيرانية التي تمخضت عن سلبية علاقات متأزمة مع الغرب ومع دول المنطقة المجاورة لها من مختلف جهات الحدود الجغرافية منذ الثورة الإيرانية لعام 1979م وحتى اليوم.
الذي يمكن توقعه من خلال العوامل والمؤشرات الداخلية والخارجية التي بدأت تتضح معالمها في إيران منذ تحولها إلى إيران الدولة من وضع إيران الثورة أن الفكر السياسي وبالتالي السلوك السياسي الإيراني الحالي يقارب العودة إلى وضع وواقع إيران الثورة هذه المرة على العالم الغربي ونوعاً ما على الواقع الإقليمي.
هذا الواقع قد يتغير كلية بفعل الضغوط الغربية والأمريكية والتهديدات الإسرائيلية العسكرية التي قد تشن في وقت لا يمكن توقعه في ذات الوقت الذي لا يمكن استبعاده.
على ما يبدو أن حقائق الواقع الإيراني الجديد بعد أن تمكنت من التغلغل في العمق العراقي والسوري واللبناني، بدأت تظهر وتتضح معالمها الحقيقية في نشاطاتها النووية، وهي وإن كانت ماضية في طور التحول الجذري من دولة إقليمية إلى دولة عالمية كما هو واقع في مخيلة القيادة السياسية الإيرانية إلا أنها حقيقة من الحقائق التي إن تحققت تمثل نقطة تحول إستراتيجية في تاريخ المنطقة وحقائقها وعلاقاتها وواقعها في المستقبل.
ترى هل من الممكن أن تتأقلم دول ومصالح دول المنطقة مع الواقع الجديد أياً كان، سواء واقع إيران الدولة النووية، أو إيران الدولة المنهزمة التي تحطمت آمالها النووية على شفير الضربة العسكرية الغربية أو الإسرائيلية؟ من الأسئلة التي يتوجب الإعداد على إجابتها ووضع بدائل إستراتيجية سياسية للتعامل معها بواقعية وموضوعية وشفافية.
إذ لا شك أن أقلمة الذات مع الواقع أو أقلمة الواقع مع الذات من أصعب التحديات التي تواجه الدول، وتعتبر من أعقد المعادلات الطبيعية والواقعية التي تفرض وجوداً جديداً على وجود الدول ومجتمعاتها الإنسانية ذاتها ولربما توجد وجوداً جسيماً آخر إلى جانبها قد يتفاعل معها إيجاباً فيفضي الأمر إلى التوافق والاندماج وربما الانصهار، وقد يؤدي إلى التفاعل السلبي بين الكيانين (أو الكيانات) فينتج عنه اختلاف وخلاف وتنافر وصراع وبالطبع ربما تتمخض عنها الحروب المدمرة لمصالح الجميع.
drwahid@com