كثيرا ما تصلني أسئلة استفسار حول الالتزام بعملية النشر الصحفي المستمر عبر زاوية تظهر على صفحات الجرائد ثلاث مرات أسبوعيا لا سيما أني أنشر على مستويات مرادفة أخرى عدا الصحافة، وهذه الأسئلة تراوح ما بين استفسار من نوع: هل الالتزام بالزاوية الصحفية يمثل استنزافا لقلم الكاتب؟ لا سيما في سعيه ومحاولته تقديم الجديد والمختلف بصورة متصلة، دون الركون إلى نمطية معينة، والتمرد على الدرب المألوفة الآمنة خشية السقوط في التكرار (لدى قارئ حصيف وذكي وقادر على تجاوزك بثوان لقلب الصفحة).، واستفسارات أخرى من منطلق هل تؤثر عملية النشر المستمر في رصيد الكاتب من الأفكار والمفردات والرؤى وتستحوذ على صوره وأخيلته ووقته وجهده، فتكون عملية الالتزام بزاوية عملية استنزافية على حساب نتاجه الإبداعي في جوانب أخرى؟
وأعتقد أن الأسئلة السابقة تتطابق مع غياب مفهوم محلي للكاتب المحترف، وعدم الاعتراف بالكتابة كعمل جاد مستقل يكرس الكاتب له كل جهده وأفكاره وطاقاته، وليس عملا هامشيا يمارس في شقوق الوقت أو تقلبات ألوان المزاج.
ففي العالم المتحضر من الممكن أن يفرغ الكاتب نفسه لعملية الكتابة والإنتاجية بشكل كامل، ودور النشر تبتاع منه كتابه وهو ما برح مخطوطة لم تر النور في طور الإنجاز بين يديه، ويكون اسمه في بطاقة الهوية - كاتب، وبالتالي يعيش في قلعة الكتابة بصورة مستمرة باختلاف ساحاتها وردهاتها من مقال ورواية وقصة، والكاتب الكولومبي الشهير الحائز على جائزة نوبل (ماركيز) يقول في مذكراته (عشت لأروي)، إنه يتسلى بكتابة المقالات وسينوريهات الأفلام بين الرواية والأخرى، فالكتابة هي غرفات متداخلة بعضها يفضي إلى البعض الآخر.
ولكن يبدو أن هذا المفهوم لم يتطور لدينا بالشكل الكافي، على حين أننا نجد من جانب آخر كثيرا من كتاب الزوايا المحليين لدينا الذين وصلوا إلى مراحل متقدمة في الحرفية والمهارة سواء في جدة الطرح والمعالجة أو الأسلوب القائم على تحقيق حالة من الدهشة والمتعة معا، مع حذق في صراع الأسقف الضيقة والالتفاف حول السدود والموانع.
الكاتب الذي يلتزم بزاوية دورية باستطاعته مع الوقت أن يطور أساليب ووسائل اتصاله بالمعلومة من حوله بالشكل الذي يجعله قادرا على تجيير الكم الهائل من المعلومات ومعالجة مادتها لتتحول إلى مقال مبني على فرضيات ومن ثم أدلة وأخيرا محاولة للوصول إلى الاستنتاج.
ومن خلال تجربتي مع الكتابة كثيرا ما أجد أن المقال قد كتب في ذهني وتسلسلت سطوره في مخيلتي ولم يبق لدي في النهاية سوى عملية الصياغة والتنقيح الأخير.
فالكاتب عموما يعيش قريبا من منابع الأخبار ومصبات المعلومات كي يظل على اتصال كامل مع محيطه, مترصدا بمنظار الرؤيا الشمولي العامر بالزوايا المتعددة. بل يدخل في حالة صراع وتحد دائمين خشية أن يقع في فخ الاستسهال والتنميط أو النوم على أمجاد مقال واحد ناجح حقق أصداء طيبة.
الارتباط بالكتابة بصورة دورية هي التي تجعل الكاتب يمتلك مفاتيح الحروف وأسرار قلعتها الغامضة، وهي التي تدربه على تحويل المادة الخام من الأفكار والحروف والرؤى التي تعتمل في أعماقه إلى صيغة نهائية من العمل الإبداعي القائم على المهنية والاحتراف.
الالتزام بزاوية صحفية بصورة دورية تبقي الكاتب على خطوط التماس الحمراء، مع مجتمعه ومحيطه والتيارات المتفاعلة هناك، مع ذهن متيقظ في رصدها ومتابعتها.
ولكن وإن كانت الزاوية تمتلك جميع هذه المفاتيح المذهلة لمحيطها، إلا أنها أحيانا يصيبها الوهن والخمول والرغبة في التواري والاختفاء، ولعلها مناسبة هنا أن أستأذن القراء لأجل أن تدخل هذه الزاوية في كمونها الصيفي السنوي، على أن نعود إن شاء الله قريبا بالمزيد من الضجيج والشغب ومعابثة الخطوط الحمراء والغرف المغلقة.