Al Jazirah NewsPaper Thursday  31/07/2008 G Issue 13090
الخميس 28 رجب 1429   العدد  13090
إضاءات نفسية
د. محمد بن عبد العزيز اليوسف

زاوية تهتم بكل ما يتعلق بالطب النفسي والتنمية البشرية وتطوير الذات.. نستقبل كل أسئلتكم واقتراحاتكم.

تنمية الذات وتطوير الشخصية

* عزيزي الدكتور محمد اليوسف

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا طالب جامعي أدرس في كلية الهندسة وأحاول خصوصاً في فترات الصيف والإجازات أن أقرأ فيما يتعلق بتطوير شخصيتي، وأحضر دورات في هذا الجانب كدورات البرمجة اللغوية العصبية لكنني كثيراً ما أواجه من بعض زملائي كلمات تحبطني مثل أن الشخصية والعادات لا يمكن أن تتغير وأن الطبع يغلب التطبع.

أرجو الإجابة بصراحة هل العادات المتأصلة في الشخصية كالعصبية الزائدة مثلاً وهذه أعاني منها كثيراً يمكن تغييرها أم لا وشكراً؟

= أخي الكريم دعني أبدأ من حيث انتهيت أنت وأعني بذلك المثل الشعبي الشائع (الطبع يغلب التطبع) حسنا لكني كمختص أقول لك: إن التطبع إذا مارسته باستمرار وبصبر لمدة كافية فانه يتحول مع الوقت إلى طبع جديد. دعك من الأمثال الشعبية واسمع معي ما يقوله معلم البشرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما العِلم بالتعلُّم وإنما الحِلم بالتحلُّم). فإذا كان الحِلم الذي هو سيد الأخلاق يمكن التطبُّع به حتى يتحول إلى طبع، فمن باب أولى أن تندرج تحت ذلك أيضاً بقية الطبائع. وحين سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينصحه قال: لا تغضب. وورد أيضا: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). لاحظ معي عبارة (الذي يملك نفسه) هذا هو ما يسمى حالياً تقنيات إدارة الذات، وعبارة (عند الغضب) تشير إلى أحد فروع إدارة الذات وهو إدارة المشاعر السلبية كمشاعر الغضب. ومجمل القول إن الإنسان بإمكانه - بإذن الله تعالى - تطوير شخصيته بشكل قد لا يتصوره البعض، لكن ذلك بحاجة إلى صبر ومثابرة حقيقية وإيمان بأهمية هذا الأمر. والمرتكزات الأساسية لتطوير الذات هي:

أولا: إدراك طبيعتك كإنسان وأنك لم ولن تبلغ الكمال أبداً فالكمال لله سبحانه وتعالى؛ لذلك فتطوير الشخصية هو عملية لها بداية وليس لها نهاية بل هي أشبه ما تكون بمنهج حياة كلنا كبشر بحاجة إليه.

ثانيا: وعيك بوجود أوجه قصور وعيوب لديك مثلك مثل أي إنسان على وجه الأرض هو الخطوة الأولى للتصحيح والتطوير.

ثالثا: السلوكيات والطبائع التي تمت ممارستها على مدى سنوات أصبحت تمارس بشكل تلقائي غير واع ولتغييرها نحتاج فترة كافية قد تمتد إلى أشهر بل وربما سنوات أحياناً وتحتاج إلى صبر ومثابرة حقيقية لتحويل السلوك الجديد من ممارسته بشكل واع في البداية حتى يتحول إلى سلوك تلقائي لا واع بعد ذلك. وحتى تتضح هذه النقطة بشكل أكبر سأضرب لك مثالا بقيادة السيارة ففي البداية تجد نفسك تتعلم بوضع قدمك اليمنى على دواسة البنزين واليسرى تتنقل بين الدواسات الأخرى وعليك أن تتابع بعينيك المرايا، كل ذلك تفعله في البداية بوعي ويقظة كاملة وتجده متعباً وشاقاً وقد تنسى أحياناً أين تضع قدمك ولكن بالممارسة المستمرة تجد نفسك بعد ذلك تقود السيارة باللاوعي أي بشكل تلقائي حتى أنك أحياناً قد تسرح طوال الطريق من الجامعة وتفاجأ بوصولك إلى البيت لأنك لم تعد بحاجة إلى استخدام عقلك الواعي أثناء القيادة، بل أصبحت هذه العملية تتم بشكل تلقائي لاواع. كذلك الأمر عندما يبدأ شخص باستخدام الآلة الكاتبة أو لوحة مفاتيح الكمبيوتر تجده في البداية يبحث بعينيه عن الأحرف ولكن بعد الممارسة المستمرة تبدأ أصابعه بالتحرك تلقائياً نحو الأحرف دون الحاجة للبحث أو النظر اليها. والأمر ينطبق أيضاً على تبني سلوكيات وطبائع شخصية جديدة حيث يستلزم ذلك صبراً ومثابرة وممارسة مستمرة وجهاداً مع النفس في البداية حتى يتحول السلوك الجديد بعد ذلك إلى سلوك تلقائي ويصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصيتك الجديدة.

وبرامج تنمية الذات وتطوير الشخصية تشمل جوانب عديدة منها تطوير مهارات التواصل الاجتماعي لدى الشخص بما في ذلك الذكاء اللغوي أو اللفظي وانتقاء محتوى العبارات ونغمة ورنين الصوت وكذلك الإيماءات والإشارات واستخدام لغة الجسد بطريقة سليمة، كذلك إدارة المشاعر والتعبير عنها بفعالية بما في ذلك إدارة مشاعر الغضب، وإدارة الوقت بفعالية وهو جزء من الإدارة الناجحة للذات.

وفي وقتنا الحالي أصبحت المكتبات الكبرى على مستوى العالم تعطي حيزاً كبيراً للكتب التي تتعلق بهذه الجوانب، كذلك فإن غالبية الكتب التي تسجل أعلى المبيعات على مستوى العالم هي الكتب التي تتناول جوانب تنمية الذات وتطوير الشخصية؛ مما يؤكد أهمية هذا الأمر لكل فرد يطمح بتحقيق النجاح أياً كانت طبيعة تخصصه، بل إن الكثير من الدول المتقدمة ومنذ سنوات أصبحت تولي اهتماما خاصاً بهذه الجوانب في مناهجها الدراسية الرسمية تمشيا مع لغة العصر التعليمية التي تتجه نحو ما يسمى problem solving learning أي التعليم المتجه نحو حل المشكلات، أي نحو تعليم أكثر واقعية يعايش تفاصيل الحياة المعاصرة ومشكلاتها التي سيواجهها الطالب بعيدا عن الإغراق في المناهج النظرية التنظيرية الأقل أهمية. أعتقد أخي الكريم خصوصاً أنك تدرس في تخصص علمي مهم كالهندسة أنك بحاجة ربما أكثر من غيرك أن تصنع لنفسك شخصية متفردة، إيجابية ومؤثرة وعليك أن لا تلتفت لمحاولات جرك نحو السلبية فالإيجابية وتحمل المسؤولية الشخصية هي سمة الناجحين دائما.

تذكر أيضاً أن عدم شعورك بالتغيير لا يعني بالضرورة عدم وجود تغيير حقيقي خصوصا فيما يتعلق بجوانب السلوك والشخصية؛ لأن التغيير يبنى من الداخل ومع الوقت شيئا فشيئا يبدأ بالبروز خارجيا.

المثال الأقرب لهذا التصور هو إبداع الخالق العظيم - جل شأنه - في بعض أنواع شجر المطاط في مناطق معينة في الصين، حيث يقوم المزارعون هناك بسقي هذه الأشجار لمدة 4 سنوات متواصلة قبل أن تبدأ بالنمو فوق سطح الأرض لكنها ما إن تبدأ بالظهور على السطح حتى تحقق ارتفاعات هائلة لا يستطيع الواقف أمامها مشاهدة نهايتها.

سبحان الله فهذه الأشجار تضرب بجذورها إلى الداخل بعمق لمدة 4 سنوات لتضمن بعد ذلك أن ترتفع وترسل فروعها بعيدا في الهواء دون خشية السقوط فهي ثابتة من خلال إرساء دعائمها بصبر لمدة طويلة. تخيل معي أخي العزيز لو أن أحد الذين يجهلون طبيعة هذه الأشجار مر بالفلاح الصيني وهو يسقي أرضا جدباء ثم مر عليه بعد ذلك بأربع سنوات ووجده ما زال يسقي نفس الأرض التي لا يظهر عليها أي شيء. بماذا تتوقع أنه سيصفه؟؟ رجل مجنون أليس كذلك؟!

ولكن المزارع بخبرته يدرك أنه يجب أن يصبر ويثابر طويلا حتى يحصل في النهاية على النتيجة المبهرة. هذا بالضبط ينطبق على الشخصية والسلوك الإنساني فالبناء والتغيير يبدأ من الداخل ويحتاج إلى صبر ومثابرة لصناعة شخصية ناجحة ومستقلة بذاتها.

وفقك الله.

إضاءة:

كُن مبادراً وصانعاً للحدث بدل أن تكون مجرد ردود فعل للآخرين.

* دكتوراه في الطب النفسي
كلية الطب ومستشفى الملك خالد الجامعي - الرياض


e - mail: mohd829@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد