من حسنات معرض الكتاب الأخير -على قلتها هذه المرة!- صدور العمل الأول للأديب إبراهيم بن محمد أبانمي الذي حمل على صدره عنواناً معبراً (عشب يتفيأ ظلاله) وكأنه يقصد بالعشب نصوصه الثائرة التي انتشرت بأناقة في طيات كتابه التي تلامس صفحاته الثمانين تقريباً.
المثير في هذا الكتاب أمور كثيرة، منها الفكرة الرئيسة التي قام عليها الكتاب، مقطوعات نثرية أو شعرية، بعضها أشلاء قصيدة!، جاءت مكثفة تحمل بين حروفها القليلة معاني كثيرة وعميقة.. وكذلك البناء العام لتلك النصوص التي اعتمد فيها البعد عن التقليدية في الطرح، والجرأة أحياناً في لمس الخطوط والتعرض لها بطريقة غير مألوفة.
إبراهيم أبانمي في تجربته فتح باباً للمقطوعات القصيرة التي قد يكتبها العديد من الأدباء ولكنهم يتحرجون في طرحها كونها قصيرة ولا ترضي طموح العديد من القراء، بينما في هذا العمل أعتقد أن الكاتب وجه رسالة إلى الأدباء ألا تملأ الأوراق بأي كلام وأي قصة والسلام!
نصوص أبانمي تطرقت لعدة موضوعات، كانت متحررة من كل قيد.. فلا حبكة في قصصها، ولا قافية في قصائدها، لا سجع في مقاماتها، وتعقيد في أحاجيها، يبدأ أول نص بقوله: (أصابه مغص في رأسه.. كان مليئاً بالفضلات! وخرجت رواية..)، نص نقدي أكثر مما هو أدبي، فهو ينظر لواقع الرواية حالياً والذي لا يسر البعض، ومفاتيح النص كانت (مغص) و(فضلات) فشرحت لنا رؤية الكاتب، وغير ذلك من النصوص تلحظ فيها أنه تطرق نقدي، فهي عبارة أدبية في شكلها العام ولكن تحمل في مضامينها الداخلية مبادئ نقدية ووجهة نظر الكاتب.
ونجد أيضاً عدداً من المظاهر التي تتفق فيها بعض النصوص مع اختلاف مدة كتابتها في حدود خمس سنوات كما ذكرها الكاتب، فهناك مثلاً القضية الإنسانية، ونقد جنس الإنسان بالعديد من العبارات نحو:
(إنسان يقول:
ليس مهماً ألا أشبع..
المهم ألا تشبع أنت!)
وأيضاً:
((الذئب) لا يأكل أخاه
(الذئب) وليس الإنسان...)
فهذه عبارات أو (طلقات) من بين مخزن أسلحة تحويه طيات هذا الكتاب الذي يكاد أن يرن أمام أجهزة التفتيش في المطارات!، يبدأ ناقداً هذا الإنسان، ويصل إلى الإنسان الصديق الذي يرجو ألا يطعنه فجأة! ثم يصل إلى الناس والطبقية بينهم حتى يصل إلى الأدباء ويبدأ يبحر بينهم، بين التقليديين والحداثيين، ويبدأ (يلسع) بعباراته، مؤلمة ولكنها لا تقتل!
ولأن النصوص غير مرتبة بحسب موضوعاتها وقد يكون المؤلف رتبها بطريقة ما! فإنك لا تكتشف الموضوعات الرئيسة إلا بعد أن تقرأ عبارة مشابهة، فتتجمع المتشابهات لديك وتنتهي من قراءة الكتاب وأمامك مادة أدبية نقدية اجتماعية سياسية فلسفية دسمة جداً.
ففي السياسة تطرق كثيراً لقضية فلسطين بشكل خاص وعن العرب بشكل عام، فتجده في نص معبر يقول: (جربنا كل الألوان في رسم خارطة فلسطين.. لم يجدِ إلا الأحمر..).
نص معبر يختزل مقالات عديدة تبين كيف تعيش بين سماء مليئة بالصواريخ وأرض تنقع بالدماء، ولم يغفل أيضاً عن القضية السياسية و(شرهم من يبدأ بالسلام!).
ويقول في نص سياسي حارق: (قد يكون اليوم مشؤوماً
لا أدري لماذا حرمنا العم سام من صفعة الصباح!)
(هم أكثر منا حضارة..
يلعنوننا بلطف، ويقتلوننا برقة)
وبالطبع لا تخلو النصوص من السخرية كقوله: (حينما أخبره والده بقرب أجله..
بكي.. واشترى كفناً.. وحفر قبراً
... وفتح حساباً في البنك.)
وإن كانت النصوص تتفاوت في هذه الموضوعات وغيرها فإنه لا ينسى علاقته الوثيقة بالشعر كونه أحد من جرب امتطائها فتأتي (طلقاته) معبرة (مسكين الشعر!
مازلتم تقرضونه حتى انقرض..)
هذه عينات يسيرة من نصوص أبانمي التي تطرقت لكل شيء، وأبدى رأيه في كل حدث يعبث بالألفاظ ويستفيد منها نحو (القصعة ملأى بالأجساد
لذلك تداعت الأمم.. المتحدة..) و(العلم صيد..
والصيد محرم في الحرم..
الجامعي!) و(... بأية حال..؟
وأخبار صباح العيد:
مقتل.. مقتل.. مقتل..)
وأمام عبارات ارتكزت على (المرآة) وعن حالة العرب المزرية، هذا الإنتاج الذي تميز به أبانمي وأحسب أنه من أوائل الذين يكتبون بهذه الطريقة وبهذا الطريق الشامل، فتقرأ النص على صغر حجمه إلا أنه يحظى بعناية خاصة، فعلامات الترقيم لها دلالة نحو (...) علامة الحذف تعطي بعداً فنياً وعلامة الاستفهام والتعجب أخذت نصيبها في نصوص أبانمي، مدركاً أن هذه العلامات التي لا يجيد استخدامها بعض الكتاب، لها وقع وأهمية واضحة في إعطاء تصور ونظرة مختلفة لدى مختلف القراء.
من مميزات نصوص أبانمي هي الغموض والألغاز التي تكتنف بعضها، فتقرأها مرة ومرتين فلا تعرف ماذا يقصد ورائها، أو يقوم بالتورية في بعض معانيها الحساسة، وذلك لأن الصراحة أحياناً تكون صعبة أو كما قال في نصٍ (لكن طعم الحق مرير).
وأرى أنها -وإن كانت تجربة فريدة- تستحق أن نقف أمامها ونشيد بإقدام الكاتب ودعم النادي الأدبي، لكن يجب أن تكون (الطلقات) القادمة (قذائف) حارقة، فقوة النصوص أيضاً في طولها واتساعها وتسخير العديد من العبارات والتشبيهات والخدع اللفظية لتجذب القارئ معك في نصٍ واحد أطول وقت ممكن.
وأعود لما ذكرته أن هذه النصوص تحمل مفاجآت الشاعر العراقي المعروف (أحمد مطر) وسخريته أحياناً، فهو شاعر يبني القصيدة بشكل سهل تشعر فيها بهدوء النص، ثم ما إن يصل لنهايتها حتى يفاجئك بنهاية غير متوقعة تعطيك هدف الموضوع كله.
وإن كان أبانمي يتفق مع مطر في المفاجأة والسخرية اللاذعة الممزوجة بالأسى نوعاً ما، فإن لدى أبانمي نفس أصيل يمكنه التعرض للعديد من القضايا بوجهة نظره الخاصة، وبعبارات محددة دقيقة، لذلك لا أرى حرجاً في كون أبانمي يمثل أحمد مطر الشعر السعودي نظراً لهذه المقطوعات الجميلة التي تعد بعضها شطر بيت شعري.
واختم أخيراً بألا يبدأ بعض النقاد بشحذ سيوفهم انتقاداً لهذا الإصدار لقلة عباراته من جهة ونمطها الجديد من جهة أخرى، بل الأحرى إبراز الجوانب الإيجابية والسلبية في ذات النصوص، وعليهم ترقب نزول إصدارات جديدة تحمل نفس النمط! فأبانمي أعطى فكرة جديدة لمن يرغب بالكتابة علهم أن يتركوا الرواية في حالها كي لا يشعروا بالمغص وتظهر فضلاتهم!!
عبدالله بن ناصر الخريف
akhuraif@gmail.com