يُفترض أن تفضي كلّ الأعمال والجهود إلى بناء الوطن وتنميته، حتى وإنْ كانت في الأساس مسخّرة لخدمة الذات، إلاّ أنّها كنتيجة سوف تصبُّ في خانة تنمية الوطن والمواطن .. حتى في علاج وتعديل السلوك السّلبي توجد هنالك فرص لاستثمار هذا السّلب في البناء الإيجابي.
ذات يوم، وبينما كنت في طريقي إلى إحدى المحاضرات في جامعة (صفك)، حيث إنني عضو في المجلس الأعلى العالمي للجامعة، إذْ أوقفتنا شرطة المرور وطلبوا أوراق السائق الذي تبيّن أنّه كان مسرعاً، وقبل أن يحرِّر الشرطي المخالفة للسائق، أوضح له أنّ قيمة المخالفة قد تصل إلى ستمائة دولار أمريكي، وهو ما أزعجني كوني طلبت من السائق أن يسرع قليلاً حتى نصل في الموعد المحدَّد، فما كان مني إلاّ أن بادرت بمخاطبة السائق بأنني سأساهم في دفع قيمة جزء من المخالفة، وخاصة أنّ السائق عربيٌّ ومسلمٌ ومغترب .. المفاجأة كان في ردِّ السائق عليَّ، حين قال: لست مضطراً لدفع المخالفة نقداً فلا تزعجي نفسك، وحين زادت دهشتي بيّن لي أنّ هناك خياراً لديه في كيفية دفع المخالفة، وأنّ في إمكانه ألاّ يدفع سنتاً واحداً، وفهمت فيما بعد ذلك أنّه يمكنه مقايضة المخالفة بخدمة المجتمع!! ازداد فضولي لمعرفة المزيد حول هذا الأمر، وعرفت أنّ هناك نظاماً مرورياً (تربوياً) يؤكد في مضمونه على أنّ المخالفات المرورية ليس المقصود منها جمع المال، وإنّما تقويم السلوك، إذْ يستطيع المخالف أن يخدم مجتمعه لمدّة ساعات محدَّدة .. يحكم مدّتها نوع المخالفة، وقيمتها، وغالباً ما تكون تلك الساعات في العطل الرسمية الأسبوعية أو الموسمية، بحيث يحصل كلُّ مخالف على شهادة خدمة بعد انقضاء ساعات العمل في المجال الذي اختاره لسداد قيمة المخالفة ... من تلك الخدمات: التدريس في مراكز محو الأمية، إنْ كان مقتدراً على عمل ذلك، أو الترجمة، أو خدمة الكنيسة، أو تنظيف المراكز العامة والشوارع وواجهات المباني الرئيسة في الأماكن العامة، وتنسيق الحدائق بأشجارها وأعشابها، ودهان المقاعد فيها وتجديدها، وخدمة كبار السن والمعوّقين وذوي الحاجات الخاصة ... إلى غير ذلك من الخدمات التي تضيف قيمة اجتماعية للعمل يفيد منها العامل وأولئك الذين خصص لهم العمل.
لماذا لا يكون لدينا مثل هذا الخيار فنحظى بمثل تلك الأنظمة التي تدلُّ في معناها الكبير على وعي حضاري، وقيمة اجتماعية مثالية .. نحن أولى بها من غيرنا، لأنّ ديننا الحنيف يحثّنا عليها ويدعونا إلى نيْل أجرها في الحياة الدنيا، بينما لنا رصيد الأجر ذاته وأعظم في الحياة الآخرة، لأنّ الحسنة بعشر أمثالها في كرم هذا الدين الذي جاء ليكرم الإنسان ويهديه إلى الصراط المستقيم؟!
نحن في حاجة ماسّة إلى فهم أنفسنا من خلال الوقوف على الجانب الأبيض فينا، ثم ننطلق منه لفهم الآخر، وتلمُّس احتياجاته لأنّ في ذلك بذرة خير سوف تنمو مع الأيام، لتصبح شجرة عالية نستظلُّ جميعنا في ظلِّها، وننعم بقطافها .. وذلك لعمري خير من النّهر والزّجر والتنفير والجباية ... وتاليتها؟!!