لا بد أنه أفزع العديد من دول الخليج العربي شعوباً وحكومات مرأى الاحتجاجات العمالية التي شهدتها دولة الكويت الشقيقة، بما عكسته المشاهد التلفزيونية من هناك من مناظر مؤلمة لسيارات مقلوبة وزجاج مهشم وصيحات غاضبة لمجاميع من عمال أتوا طلباً للرزق عن طريق العمل بأرض العسل واللبن النفطي. وهم على اختلاف بيئاتهم الاجتماعية من حيث الخلفيات التاريخية والنظم السياسية والقدرة الاقتصادية والتطور التقني .....
.....والمستوى الثقافي يحملون حلماً متشابهاً بأن يحققوا بكسب حلال بعض ما يضمن مستقبلاً آمناً كريماً لهم ولأسرهم التي تغربوا عنها في سبيل هذا الحلم. ومصدر الفزع والخطر أيضاً هو أن تتحول مسيرة الحياة السلمية لهذه القوى الاجتماعية التي بدأت مع الطفرة الريعية في المنطقة بمختلف مشروعات التنمية والاستثمار من سبعينيات القرن الميلادي الماضي إلى مسيرة مُهددة تضيف مزيداً من الشرر على الفتيل الملتهب أصلاً في المنطقة بشتى مخاطر الاشتعال السياسي والعسكري. وقد تابعت بعض التحليلات التي طرحت على عجل في أعقاب تلك الأحداث العمالية الاحتجاجية بدولة الكويت، فوجدت أنه بينما القلة منها يلقي اللوم على أكتاف هذه العمالة في عدم الانضباط وعدم اللجوء إلى السجال السلمي مع الجهات المعنية في مطلب رفع الأجور الذي يمثل صلب قضية الاحتجاج، فإن العدد الأكبر من تلك التحليلات ذهب مذهباً منصفاً لا يبرئ الذات من مسؤولية التسبب في تلك الاحتجاجات العنيفة. بل إن بعض تلك التحليلات رأى أن هذه الاحتجاجات قد تأخرت عدة عقود نظراً للإجحاف الحقوقي الذي يتعرض له قطاع عريض من العمالة الوافدة في دول الخليج خاصة قطاع ما يسمى العمالة الرقيقة أو العمالة الخدمية في شتى مجالات العمل من عمال البناء والتعمير إلى عمال النظافة.
والحقيقة أن لي رأياً في الموضوع أرجو أن يكون موضوعياً بحيث لا نجنح إلى جلد الذات في الوقت الذي لا نركن إلى مجاملتها على حساب الآخرين أو على حساب سمعة الأوطان المضيفة أو على حساب الفهم الإنساني للعدالة الاجتماعية. وهذا ما سأحاول إيجازه في عدة نقاط:
* إن قطاعاً عريضاً من هذه العمالة يعيش في مجتمعات الخليج عيشة تجاور حيادي حدي وقاطع لدرجة الاغتراب. فنادراً ما تحدث أي عملية تفاعل اجتماعي بينهم وبين المجتمع الذي قد تمتد حياتهم اليومية فيه لسنوات. ومن الطبيعي في مناخ من هذا الاغتراب الجارح ألا يتولد لديهم حس بالانتماء ناهيك عن حس بالولاء سواء لبيئة العمل أو للبيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها.
* إن العديد من الأفراد في مجتمعنا الخليجي ولا أعمم على الإطلاق يعاني من عقد فوقية قد تصل حد العنصرية تجاه العمالة المستضافة على أرضه خاصة من عمال الدول غير الغربية بمثل ما يعاني من عقد النقص تجاه الوافدين من دول الغرب. فبينما توجد هناك مغالاة ملحوظة في تقدير الوافد الغربي سواء من حيث الرواتب أو التقدير الشخصي والاجتماعي بغض النظر عن المؤهلات وطبيعة العمل، فإن هناك مغالاة مقيتة في الاستخفاف بشخص وخلفية الوافد غير الغربي. ومن الملاحظ أنه بينما يجري احترام قيم وسلوكيات الوافد الغربي وإن خالفت عادتنا وتقاليدنا وقيمنا فإنه يتوقع من الوافد غير الغربي أن يتستر، إن لم يكن المطلوب منه أن يخفي كل ما يتعلق بهويته الثقافية سواء كانت تتعارض أو تتفق مع حس السلوك السوي.
* إنه بينما يجري عقد المؤتمرات والندوات ويحمى الوطيس الإعلامي خاصة في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2001 عالمياً وفي منطقتنا بالذات عن مسألة ثقافة الحوار وثقافة التسامح وثقافة التعدد الحضاري وقبول الآخر.. الخ، إلا أننا نادراً ما رأينا أو سمعنا أن شيئاً من ذلك إلا أقل القليل يتوجه ليشمل العلاقة بغير العالم الغربي وربما الأمريكي بالذات أو يعنى بتعميق العلاقة بيننا وبين المجتمعات غير الغربية التي تشكل العمالة الوافدة في دول الخليج غالبيتها العظمى، على الرغم من أن وجود هذه القوى المستضافة للعمل في دول الخليج يشكل بحد ذاته قاعدة ذهبية لإثراء الجانب الإنساني والحضاري بشعوبها ودولها.
* قد يقول قائل: إن العمالة الوافدة من (الدول الفقيرة) أو النامية أو (المستضعفة) تعاني الأمرين حتى في الدول الغربية, وقد تضرب أمثلة بوضع العمال من المكسيك أو التشيكانوا بأمريكا أو عمال الجزائر بفرنسا والباكستان واليمن ببريطانيا أو سواها، وتلك حجة حق لا يجب أن تقودنا لقبول باطل ما تتعرض له تلك العمالة هناك من عنصرية. هذا إضافة إلى عنصر مهم في المقارنة وهي مسألة توافر نظام واضح للحد الأدنى من الضمانات الحقوقية في العمل وفي الإقامة متى ما كانت الإقامة إقامة نظامية.
* والخلاصة التي أختتم بها هذا المقال أنه ربما حان الوقت على مستوى دول الخليج وضمن منظومة مجلس التعاون أن نعتبر بما حدث ونسمع جرس الخطر ولا نستخف به؛ وذلك لئلا تندلع علينا نيران لقوى يفترض أنها قوى مسالمة صديقة جاءت إلى منطقتنا بغرض المشاركة في الإعمار وليس لتنفيذ أجندات إمبريالية كالقوى الغربية. وذلك مثلاً بأن يلتقي وزراء العمل بمجلس التعاون على وضع مدونة حقوقية مشتركة للعمالة المستضافة بما فيها إلزام القطاعين العام والخاص بحد أدنى مجز من الأجور ومن الضمانات الحقوقية في مسألة الشروط الحياتية اللائقة سواء بالنسبة لنظام الكفالة والإقامة أو بالنسبة للسكن ولمِّ شمل العمال على أسرهم وكذلك في العلاج والتعليم وحقوق الوجود السلمي والمشاركة في الفضاء العام والتمثيل النقابي في مجالات عملهم.
* يضاف إلى ذلك ضرورة أن تكون هناك حملة إعلامية تثقيفية على مستوى مجلس التعاون وعلى مستوى مجتمع كل دولة على حدة تعيد الاعتبار لموقع العمالة المستضافة أياً كانت دولها, في السلم الاجتماعي للمجتمع بحيث تحسن وفادتها ويحظى أفرادها بالاحترام وبتعامل حضاري إنساني وإخائي راق وعادل.
* دون أن ننسى الإشارة إلى ضرورة تطوير الكوادر الوطنية من الشباب والشابات خاصة في ظل النمو السكاني السريع لدول المنطقة وتزايد وتيرة البطالة لتخدم نفسها ووطنها بنفسها. وأظن والله أعلم أن احترام الفئات العاملة الوافدة جزء من العملية الاجتماعية والتربوية لهذا التطوير. لأن الشباب عندما يرى الاحترام والتقدير الاجتماعي المادي والمعنوي للعمال أياً كانت مجالاتهم الإنتاجية والعملية فإنه لن يتردد في الانخراط في تلك الأعمال.
ويبقى أن هناك قراءة أخرى لمبادرة العمالة الوافدة إلى الاحتجاج على تدنى الأجور مقابل التضخم العالمي والمحلي في الأسعار ربما يجدر أن نفكر بها خليجياً وإن أجلنا أسئلتها. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فضاء بصري:
لن أستطيع أن أختم مقالي دون أن أخرج عن الموضوع بآخر لا يقل إثارة وتحديا ولا يقبل التأجيل.
يستحق فوز المخرج الشاب عبد الله آل عياف بجائزة المجلس الثقافي البريطاني للإخراج كتابة مجدولة بالأمل تخصص للحديث عن الفضاء البصري الواعد الذي صارت تكتبه أحلام شابات وشباب سعودي، فيضيف جيلهم القادم إضاءة عين الكاميرا إلى عتمة الحبر التي نذر العديد من مبدعي جيلي أقلامهم وألوانهم لها. والحقيقة أنني منذ شاهدت تجربة عبد الله العياف السينمائية الأولى بمدينة جدة مع تجربة عدة أفلام قصيرة أخرى لمجموعة من شبابنا مثل فيلم (القطعة الأخيرة) لمحمد بايزيد وسواها، فإنني لم أكف عن محاولة المتابعة الشغوفة بالتجربة في سبيل أن أجمع عنها ما يؤلف عملاً بحثياً يضع التجربة في سياقها الاجتماعي والثقافي ويتحاور معها كجزء وامتداد للتجربة الإبداعية الشعرية والأدبية والتشكيلية التي تحاول أن تؤسس لوعي وذائقة جديدة بالمجتمع عبر لغة البصر.
Fowziyah@maktoob.com