أنا، تتساقط صفحات أيامي أمام ناظري يوماً بعد يوم، وتتطاير أوراقها في حنايا النفس الباكية البائسة كأوراق أشجار الخريف لتترقرق قطرات الدمع في العين الناظرة التي عانت ضعف البصيرة وتنساب متتابعة على خدي كأنها جمرات حارقة...
..فأغمضهما قليلاً لعلهما يبردان ظمأ قلبي وصدى روحي باستعادة بعض ذكريات الأيام القليلة الجميلة هناك عندما كنت طفلاً بريئاً قبل أكثر من ربع قرن من الزمان لأعود إليها مستذكراً مستأنساً لذاك الفتى الذي لا يهدأ بحركته وهمته، وجرأته وخفته لأتذكر نظراته، وأبصر تطلعاته، وأعيش أحلامه البريئة وطموحاته المشروعة، لأفتح عيني فإذا أنا لست هناك كما تمنيت، لأعود وأغمضهما من جديد محاولاً استرجاع ذاكرة الأيام الخوالي لأرى ذاك الفتى هناك حيث يعرفه أهل الحي كلهم، يحبهم ويحبونه، ويحترمهم ويقدرونه، كان يافعاً يانعاً كغصن أخضر شامخ وقف عليه بلبل غريد، رائعاً بأمنياته كالربيع، صافياً بفكره كصفاء صفحة الماء على بركة عذبة بداية الشروق، يعيش الحب، ويحيا الإخاء، قلبه الرقيق ينساب عذباً بين محبيه، وقلوبهم البريئة تسكب ترنماً أرواحها فيه، عيونهم تتبع النور، قلوبهم متلاصقة، أرواحهم متعانقة، وحديثهم يمنح السرور، فشردت مبتهجاً أعيش سعادة اللحظات ونشوة الأحلام وذكريات الأمل ليضيع مني الحلم وتسلب مني السعادة وتسرق الذكريات وأبصر واقعاً مؤلماً مخالفاً لما كنت غارقاً فيه ثم عدت لاهفاً خلف أمل العيش، أمل حلم الماضي في حاضر الوقت لأحاول مرة أخرى استعادة ما كان.
واقعاً يمتطي ثوب الاختلال المميت، وسماكة الغشاوات الضريرة في العيون المبصرة، خالياً من روح الحياة، جعل كلماتها وأمانينا وانتظارنا وأحلامنا في كل أمل تهيم على وجهها، بلا رؤية، رؤية، بلا هدف، بلا بصيرة، بلا دليل. دعوات حثيثة الصراخ جامحة الحركة قوية النزعة راغمة التوجه لا خيارات حاضرة ولا بدائل مستقبلية، لا هروب يرتجى، ولا تغيير ينتظر، تنادي بالنوم العميق المميت وحل هذا الواقع المقيت، وباتخاذه منطقاً سيادياً سادياً، منطلقاً ومؤسساً للحاضر والمستقبل، بل وتغيير الماضي فهو الواقع الذي يستحيل تغييره، وهو الذي يرفض برامجه وجداول أعماله ونسق تصرفاته، وهو المسوغ لكل قبول بالدونية، ولكل رضوخ للأوامر، بل وتسويق هذا الرضوخ على انه مثالية وعقلانية مرة، وواقع وحكمة مرة أخرى، ثوباً يجب العيش فيه رغماً، بما خيط به من خيوط الزيف وقماش الخداع وأزرار الوهم.
كيف يشتغل الأمل ويتوهج إن لم تنثر على جوانبه شطآن الحياة، كيف نعيش ماضياً جميلاً ممتداً لواقع أليماً، كيف لنا أن نتجرأ بتغيير الثوب المزيف، كيف لنا أن نرتدي ثوباً ناصعاً حاملاً آمالاً وردية طفولية وأحلاماً صافية شفيفة كعذوبة الساقية في عذاري الأرض، وكيف نخرج من أجساد وأفكار منهكة بخدر أحدثته وقائع اللحظة المارقة، وكبلته بأصفادها معتقدات وإيمانات وتكدسات أحاسيس ممهورة بالسكون والانهزام، وعقول حكم عليها أن تكون منقوعة بماء التخلف وواقع الأسى وعذاب اللحظة وحرمان ماضي الحياة.
ومن كنز الحقيقة التائهة من طفولة مسلوبة لا سبيل لإعادتها وحياة واقع مفروض لا مفر من مواجهته، ومن رغبة التحليق في عالم المد الأزرق، تلألأ أمام ناظري ملامح اقتراب من ثوب حقيقتي الغائبة عن مفاجآته وبرداء روحي المهاجرة إلى البعيد وإلى حيث يقطن السكون، لمحته يقترب من أن يشاكس الهواء ليقتحم عالماً آخر غير عالمه وليسلب مني لحظة الغفلة ويوقظ هاجس متابعته، ولم يكن وحده من يفرد جناحاته في الفضاء ويتنفس عليل الهواء، بل كان غطاء رأسي يعبث باتزاني ومثاليتها المؤلمة ويحاول مغادرته ليحلق مسرعاً هو الآخر بسرب مهاجر، وأجبرته محاولاتي المتكررة على الثبات متوثباً عقله تارة ورافضاً جنون الطيران أحياناً، وبين مدافعتي للعادي وبين مراقبتي لذاك المتوحد جمالاً وتحليقاً مددت يدي أقبض على بواقي الأمل في الجسر الوهم أو وهم الجسر، أريحها من عناء الثبات والتثبيت والتشبث به، لأحد نفسي وقد أحيط على يدها وعينيها الصغيرتين المستديرتين وهي تعاني من تفسيراتي وتجمد أوصالها وتدافعت دماؤها وتهادت أنفاسها ترقب ذاك المتوسد ذارعها وازدادت قبضتي تشبثاً بوهم الأمل لأستشعر ملوحة تحتك بكفي وتحكم علي بالتحمل، ذلك التحمل المؤلم الباعث على ذهاب العقل وغياب المنطق وزوال الحكمة وبرودة الفعل وغياب الردود وامتزاج الشخصية وإنهاك القلب.
رنت إلي والأمل يتهادى، والفرح يتهاوى، والموج يتعالى وكأنه يدعوها إلى أن تتقبل محاسنه وتستعد لاحتوائه وتسلم له القياد في رسم تلك الومضات المنطلقة من ذاته والمنسكبة أملاً في ذاتي، أملاً في أن لا يعيق تلاقينا حدود، وازداد الأمل تهادياً والفرح تهاوياً والموج علواً، لا بل أصبح يضرب الأمل الوهم ويحدث صوتاً مخيفاً ويضرب الماء ويعبث بنا وأحاول تثبيت يدي لتهجر حتى الأمل مرغمة في خضم ارتفاع وتدافع الماء ولكنه لم يهجر يدها، بل دفن رأسها في هيجانه الأهوج وألقى بكل ثقله على ساعديها، ولم يأت الموج بالأمل لكي تسارع في ضمه لحناياها وبالفرج لكي تسعد والفرح لكي تنتشي.
واهتزت نفسي والأخرى مع برودة الماء ودفء الأمل وحنين الفرح وقوة الموج وصراخ الماء، ومع كل رجفة طفولية كتبت رواية صغيرة من بطل شخصيتها الحقيقية، تقول بصوت خافت ورغبة ملحة خذني وضمني فأنا وحيدة وقد غطتني ملامح الشخصية الأخرى ذات الثوب أحادي اللون والنكهة، وأمسكت متشبثة بشالي قصير الطول طويل الأمل وأسبلت جزءا منه على أمواجه فكان أن توحدا في اللون وارتاحت في كنفها ونامت في أعماقها وغاصت في ثناياها باحثة عن دفء ماضيها وأكسير حاضرها وإشراق مستقبلها ووضوح صورتها وكأنها غطاؤها القديم واستسلمت لي وأحسستها خفقة في قلبي كلما شعرت بصغره وضعفه وكم كانت كلماتها لسعات ووخزات مؤلمة على قلبي، تأتي باتساق مستمر واحد ولغة واحدة غير مفهومة لتضع بصماتها في كل بقعة منها حيث يتعالى من جديد موج الزيف ويثور الهواء غاضباً يحمل لنا عالم صغير يكاد لا يرى، ينتظر أن يكون في القلوب خفقة حنان وعلى الشفاه لفظة رحمة وفي الروح هدوء المسكن، لعلنا نتعلم من مفردات الألم والوحدة في عالمه.
لغة حب ننادي فيها أرواحنا في أنفاس الغير، وننادي على أنفاسنا في أرواح الغير.
هذا أنا........... عبدالله وعبدالله
dr.aobid@gmail.com