كان الملحق الثقافي السعودي السابق في أمريكا الشمالية، الدكتور مزيد المزيد، قد كرّمني قبل نحو عامين بإهدائي باقةً من مطبوعات (الملحقية) تتناول شؤوناً طلابية وتعليمية وثقافية متفرقة، وكان من بينها معجمٌ ضخم لرسائل الدكتوراه التي تقدم بها طلابٌ سعوديون ابتعثوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسات العليا خلال فترة تربُو على الأربعين عاماً، من 1964 حتى عام 2005 للميلاد، وقد توقفتُ بإعجاب أمام معجم رسائل الدكتوراه التي عالج من خلالها معدُّوها قضايا شتّى في علوم الإنسان والحيوان والجماد تبعاً لاهتمامات وتخصُّصات أصحابها، فسُعدتُ بها مرةً وشقيتُ بها مرّتَين:
* سعدتُ بما تنبئُ عنه تلك الرسائل من ثراء بحثي ومعرفيّ خاصة وأن العديد منها اتّكأ على المشهد الإنساني والتنموي في المملكة تاريخاً وجغرافية وعلوماً طبيعية وإنسانية.
* *
* لكنّني من جهة أخرى، شَقيتُ بذلك المعجم الثمين مرّتيْن، تأثَّرتُ في الأولى بالحقيقة القائلة إن الجزء الغالب من تلك الرسائل يقبع في الرفوف المعتمة أسير الإهمال، وفي الثانية أنه لم يُترجمْ النافعُ منها إلى اللغة العربية بادئَ الأمر ثم يُنقَّح تمهيداً لنشره والاستفادة منه من قبل مراكز البحوث والجامعات والجهات ذات العلاقة باهتمام الباحث، وخَشيتُ أنّ مصير بعض تلك الرسائل، رغم ما بُذِلَ في إعدادها من جدٍّ وجَلَد وسَهر، ليس أسعدَ حظاً من (كراسات الإنشاء) في المدارس التي سُرعان ما تَذبلُ فائدتُها حال انتهاء العام الدراسي، لتُصبحَ بعد ذلك نسياً منْسيّاً!
* *
* وأذكر أنني كَتبتُ رداً مطولاً لسعادة الملحق الثقافي الدكتور مزيد المزيد شكرتُ له إهداءه، ثم تحدّثتُ بشيء من الإسهاب عن الرسائل العلمية التي ضمّ عناوينَها المعجمُ الضخمُ فقلت ما معناه: إنني لفخورٌ جداً بذلك الإنجاز، ممثلاً في ذلك الدليل القيم لرسائل الدكتوراه التي تضُمُّ عصارةً ثمينة خَصّبتْها الأذهانُ العلميةُ الشابة لأبناء وبنات هذا الوطن على مدى نصف قرن تقريبا في العديد من العلوم الإنسانية والطبيعية، لتخْرجَ منها المعلومةُ المفيدة، والرؤيةُ النافعة، والرأيُ السديد، وصَارحتُه قائلاً إنني كنتُ وما برحتُ أتمنى أن تُحْصَرَ تلك الرسائل، مؤلفاً وإنجازاً، وهو ما تحقّق فعلاً، لكن يجب ألا يقتصر الأمرُ على حصْرها وإخراجها في دليل، بل يتجاوزُه إلى انتخاب المفيد جداً منها عبر آليّة علمية دقيقة، وما يفوزُ منها بالاختيار يُطبَعُ ويوزع على الجهات العلمية والبحثية والتطبيقية المستفيدة، لتكون مرجعاً لمَنْ أراد الاطلاع داخل المملكة أو خارجها.
* *
* وقد انطلقتُ في تلك الرؤية من الاعتقاد أن إنجازات علميةً كهذه استغرقت من الوقت أطْوله، ومن الجهد أثْقله، ومن العناء أشْقَاه، كي تخرج للناس على نحو يضيف للمعرفة الإنسانية ما يفيد ولا يضر، لحريّةٌ بالاهتمام والإشادة وإشاعة نفع الصالح منها، وربَّما كان بحث من تلك البحوث بداية مشوار لأبحاث أخرى أثْرى مضْمُوناً وأجْدَى نفعاً.
* *
* وفي الوقت نفسه، أكّدتُ أن تلك الأبحاث لا تَخْضعُ لمقياس واحد من الجودة العلمية، فهناك تباينٌ بينها في الكيْف والجَوْدة وفي قيمة الناتج العلمي لها، ولذا، يتَعيّنُ إخضاعُها لتمحيص علمي دقيق، لاكتشاف التميّز في بعضها، ونشره على الملأ ليستفيد منه من يستفيد، واقترحت على سعادة الملحق تبنِّي الفكرة مع وزارة التعليم العالي أو مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، أملاً في تكوين مشروع تقييم شامل لذلك الحشد الهائل من رسائل الدكتوراه لانتخاب المتميز منها، على النحو الذي وصفتُه آنفاً.
* *
وبعد..،
* فقد مضى حينٌ من الدهر منذ أن كتبتُ تلك الرسالة الخاصة إلى الملحق الثقافي السعودي في واشنطن، طرحتُ من خلالها أفكاراً حول رسائل الدكتوراه التي أُنجِزتْ خلال مدةٍ تدنو من النصف قرن، وأزعمُ اليوم بشيءٍ من اليقين أن الزمن لم ولن يصادر من الكثير منها جدّتَها ولا جدّيتَها أو الأهمية التي نعلقها على بعض ما تضمنته من مخرجات علمية ونتائج عملية مفيدة، خاصة ما يتعلق منها بشؤون هذا الوطن، تنموياً وحياتياً.
* وختاماً، أهدي هذا الحديث إلى معالي وزير التعليم العالي الصديق الدكتور خالد بن محمد العنقري - وفقه الله ورعاه -.