قبل أسابيع قامت إسرائيل بإجراء مناورات عسكرية هجومية؛ في رسالة واضحة لإيران بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تنامي دبلوماسية القوة النووية الإيرانية التي مضى على أزمتها مع الغرب قرابة ثلاثة أعوام. بمعنى آخر على ما يبدو أن إسرائيل تخطط لشن ضربة عسكرية استباقية وإجهاضية ضد المنشآت النووية الإيرانية.
من جهتها تهدد إيران بضرب المصالح الغربية في المنطقة وقفل مضيق هرمز الذي تمخر عبابه سفن النفط المحملة بأربعين في المائة من حركة تجارة النفط العالمي. ولتمكين تهديداتها من تحقيق عامل الردع المنشود وجهت إيران صواريخها تجاه المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونة.
التطورات السياسية والعسكرية السلبية هذه بين الدولتين لا تبشر بخير، ولا يمكن أن ينظر إليها بسرعة هكذا وبحركة نظرة سياسية عفوية دون أن توضع قيد التحقيق والتمحيص، خصوصاً ما قد يتمخض عنها من مخاطر أمنية على المنطقة بأسرها. فالمعركة على ما يبدو قادمة لا محالة (إلا إذا ما تراجعت إيران) وبالتالي لا يمكن استبعادها من الواقع السياسي في ضوء التشدد الواضح من جميع أطراف حركة الصراع.
الحقيقة تؤكد أن نشوب حرب أخرى في المنطقة قطعا لن يكون في صالح دول العالم بأسرها سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. من هنا يمكن القول إن التنظير السياسي جزء من الفكر السياسي الذي ينبثق من جوهر المعتقد السياسي لمجتمع ما من المجتمعات الإنسانية، والأخير بدوره نتاج لتفاعل الإنسان مع الزمان (أي التاريخ) ومع المكان (أو البيئة بمختلف مكوناتها). وبدون وجود تنظير سياسي موضوعي وواقعي قائم على جملة من المعادلات الموزونة لجميع المكونات الأساسية التي ينتمي إليها الإنسان وبالتالي الدول، تنتفي القدرة على رؤية حقائق المستقبل بمنظور (أو بمناظير) الحاضر.
كما وقد تنعدم القدرة على اتخاذ القرار المناسب والحركة المناسبة في الوقت المناسب، وفي المسار المناسب وبالقدر المناسب، كيف لا والإنسان بطبعه وسجيته ميال إلى تأمين المستقبل وتضمينه كي يعيش ويضمن الاستمرار.
إن العامل الرئيسي الذي يدفع إلى تقارب الدول وبالتالي تفاعلها الإيجابي هو عامل وجود المصالح القومية المشتركة بمختلف جوانبها ومكوناتها، فإن توافقت المصالح القومية تقاربت الدول، وإن تعارضت المصالح القومية اختلفت الدول وربما تصارعت وتحاربت. هذا هو واقع الحال بين إيران وإسرائيل، وبين إيران والغرب، فيما يبقى هذا العامل متأرجحاً وغامضاً بين إيران وكل الدول العربية.
من جانب آخر يرتبط بمنطق التنظير، فإن معضلة السياسة الإيرانية هي بذاتها معضلة السياسة الغربية عامة والإسرائيلية خاصة خصوصاً في الوقت الراهن التي بدورها لا تقل عن معضلات السياسات الإقليمية، فإيران تبحث عن موقع سياسي ومكانة سياسية ودور سياسي في المنطقة لا بل في العالم كله، وهو هدف لا يمكن تحقيقه وفقا للمنظور السياسي الإيراني إلا بتحقيق قوة عسكرية ضاربة ورادعة في الوقت ذاته.
إسرائيل بدورها لا تريد أن تفقد القدرة النوعية القتالية وتفوقها العسكري النوعي والنووي في المنطقة، لهذا تؤمن بأن توصل إيران إلى بناء قوة عسكرية نووية يهدد مصالحها القومية بل ويهدد وجودها القومي على خريطة المنطقة. إسرائيل تنتظر منذ عام 2005م لإنهاء الأزمة مع إيران بالطرق والوسائل السلمية الدبلوماسية، فيما تضع يدها في الوقت ذاته على الزناد لاستخدام القوة العسكرية ضد إيران.
من جانب آخر، فإن الدول الغربية تعتقد بأن إيران النووية تمثل تهديداً مباشراً وصريحاً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، ولا سيما أن النظام السياسي الإيراني - من وجهة النظر الغربية - نظام ثوري خارج على الشرعية الدولية ويهدف إلى تغيير معادلات وقوانين وأنظمة اللعبة الإقليمية والدولية.
ومن جهة رابعة تبحث الدول العربية عن حلول وترتيبات أمنية وسياسية سلمية تحقق أمن واستقرار المنطقة، لكن تلك التي تتلاءم مع متطلباتها وأهدافها ومصالحها القومية، فمعظم دول المنطقة يهمها تحقيق الأمن والاستقرار والحفاظ عليهما على الرغم من وجود اختلافات واضحة بين سلوكياتها السياسية وأفعالها الدبلوماسية تجاه بعضها البعض التي قد يراها البعض من كونها لا تعكس تلك الرغبة ولا يمكن بموجبها أن يتحقق مستقبل أفضل أكثر أمناً واستقراراً.
من هنا تتضح الفوارق الكبيرة بين الأطراف الثلاثة المتصارعة من جهة، ومن الجهة الأخرى من الطرف العربي المراقب. وهذا ما يفسر وصول معظم إن لم يكن جميع الجهود والمساعي الدبلوماسية السلمية الإقليمية والدولية لنزع فتائل الأزمة إلى طريق مسدود.
الذي يهمنا هنا تحديداً كيف يمكن للدول العربية أن تواجه مخاطر الإعصار العسكري القادم نحوها دون أن تتأثر بتياراته وقوى جذبه وطرده التي يمكن أن تهدد منجزاتها بل ولربما أمنها واستقرارها؟ علما بأن غالبية الدول العربية ما زالت تسعى لإيجاد واقع سياسي إقليمي معقول ومقبول للجميع يمكن بواسطته الحفاظ على الأمن والسلام والاستقرار الإقليمي والعالمي.
ولعلنا لن نخطئ أو نجور في الحكم بل ولن نجرؤ على التلفيق على التاريخ إن قلنا إن معظم مشكلات منطقة الشرق الأوسط كانت وما زالت تشتعل بفعل الصراعات الداخلية والخارجية ومخططات القوى الأجنبية ومؤامراتها التي رسمت خريطتها الجغرافية منذ منتصف القرن الماضي؛ لتتحكم في مصير المنطقة حالياً ولربما لقرون طويلة قادمة من الزمن.. تُرى هل الحل ومن ثم المخطط الإيراني هو المسار الذي ينهي حالة المنطقة الماضية ويدفعها في طريق جديد أم العكس؟.
وللحديث بقية.
drwahid@com