المواطن العراقي كان ولا يزال يشعر بالخوف والرهبة والعداء لمن يتخذ من المنطقة الخضراء مقراً له وتراكم هذا الشعور العدائي نحو هذه المنطقة في بغداد بعد أن زال اخضرارها لتحولها لقلعة محصنة تضم كل ممثلي القوى التي سهلت احتلال مدينة الرشيد وتحويلها إلى خرائب وأنقاض وداست الماكينة العسكرية المحتلة على كرامة الرمز العراقي الوطني وفي وقت وحدته الوطنية واستبدلتها بالطائفية والمذهبية والعرقية العدائية وبعد أن كانت هذه المنطقة المميزة في العهود السابقة لحكم صدام حسين ورفاقه في قادة حزب البعث مشهورة بقصورها الجميلة والمحاطة بحدائق غناء تشم عن بعد منها رائحة الورد البلدي الجوري والياسمين وقداح الليمون والبرتقال والتي تزين حتى شوارعها فكانت (كرادة مريم) وهذا اسمها قبل أن يلونها رفاق البعث بالخضراء واحتلالها ومصادرتها ببنائها وأرضها وتهديد سكانها بالمغادرة والسكن في مناطق أخرى من بغداد وتحولت هذه المدينة الصغيرة لحصن عسكري كبير أطلق عليه مسمى القصور الرئاسية وعلى ضفاف دجلة بني أغلى قصر جمهوري في الشرق الأوسط وطاب المقام فيه للسفير بريمر فحوله بقرار أمريكي هذه المرة مقراً للسفارة الأمريكية في بغداد لتضم جهازها الإداري والعسكري والذي بلغ ثلاثة آلاف دبلوماسي وعسكري أمريكي!
ومنح بريمر أيضاً شركاءه في احتلال العراق قصوراً أخرى لتكون مقرات لسفارة بريطانيا وأستراليا وإيطاليا حتى بلغت إحدى عشرة سفارة في محيط واحد. أما الرئاسة العراقية ومجلس النواب فاحتلوا بنايات قديمة كانت مقرات لقوات الحرس الجمهوري العراقي السابق.
إن الدخول والخروج من هذه المنطقة التي سميت مجازاً بالخضرة مذلاً وصعباً للمسؤولين العقاريين والعرب المقيمين بداخلها، فبعد مراحل التفتيش العادي والتأكد بكلاب بوليسية مدربة ضد الجريمة ولها حاسة شديدة في التمييز بين العدو والصديق وبعد هذه المرحلة يخرج المسؤول والنائب العراقي يتصبب عرقاً من الخوف والخجل الوطني!.
كان من تأثير الفوضى الأمنية التي عاشتها بغداد عاصمة الرشيد لأكثر من ستة أعوام وتعدد حوادث خطف الدبلوماسيين العرب بالذات منذ نسف السفارة الأردنية، وخطف وقتل السفير المصري وتلاحقت هذه الأعمال الإجرامية وتركزت على سفارات دول الخليج العربي، فخطف القائم بالأعمال البحريني الأستاذ الأنصاري وبظروف غامضة وأطلق سراحه بعد أيام وجرح بإطلاقة سددها خاطفوه بعد توسط هيئات وأحزاب عراقية وامتدت يد الغدر الإجرامي نحو سفارة الإمارات العربية المتحدة وحجز القائم بالأعمال لفترة طويلة لدى خاطفيه وتركه حياً بعد استلام فديته.
ولاكتمال الشعور السياسي بالاعتراف الدولي بالوضع القائم في بغداد وتحت المظلة الأمريكية قام الدكتور موفق الربيعي مستشار الأمن القومي والذي يمثل ازدواجاً حقيقياً للوضع العراقي الحالي باحتسابه على النظام العراقي الحاكم وبشرعية أمريكية منحها بريمر للربعي بقرار تعيين بمنصبه هذا ولمدة سبعة أعوام قابلة للتجديد وبصلاحية قد تكون عراقية أم أمريكية الله أعلم.
وأوفد الربعي إلى عدد من دول الخليج العربي بدأها في المنامة ليبشر بنجاح الديمقراطية والحرية والشرعية الانتخابية الحرة للعهد العراقي الحالي والذي حقق الأمن والاستقرار وأنه يحمل بجيبه مفاتيح للسفارات الخليجية المنتظر افتتاحها داخل حدود قلعة المنطقة الخضراء.
وأثمرت جولة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لدول الجوار وبعض دول الخليج العربي بإطفاء الدين الإماراتي على العراق واختيار اللواء الشحي سفيراً جديداً في العراق والوعد بتعاون اقتصادي وسياسي كبير وتزامن هذا الإعلان الإماراتي بإعلان المنامة عن تسمية الأستاذ صلاح المالكي سفيراً لمملكة البحرين لدى بغداد ومنح مقر جديد في داخل المنطقة الخضراء بدلاً عن مقرها القديم الذي أحيل إلى أنقاض بعد نهب محتوياته من قبل الميليشيات المجرمة.
وأعلن أيضاً في نفس هذه الفترة عن زيارة ملكية أردنية إلى بغداد ورافق ذلك تسمية السفير الأردني الجديد السيد الزيدان ويعتبر العاهل الأردني أول زعيم عربي قد يزور بغداد منذ الغزو الأمريكي لها في 2003م ولم يحدد لها موعد ثابت حتى الآن. وتمشياً مع إيجابية المشهد العراقي أمنياً جاءت الزيارة التاريخية لأول رئيس وزراء تركي للعاصمة العراقية بعد فراق دام لأكثر من ثمانية عشر عاماً وحمل الرئيس أردوغان العديد من الاتفاقيات الثنائية والتي تنشط العلاقات المستقبلية للبلدين في مجالات الاقتصاد والسياسة والأمن وتقسيم مصادر المياه النابعة من الأراضي التركية - دجلة والفرات، فحاجة العراق إلى رفع منسوب المياه في دجلة والفرات أصبح ضرورة إستراتيجية لنمو القطاع الزراعي العراقي بعد أن تعرض إلى التراجع بنسبة 50% في السنوات الست الماضية.
العراق العربي عبثت بكل أسس دولته قوى غازية ومنظمات علنية وسرية حاقدة تعتمد الانتقام السياسي والعرقي هدفاً لتحيله لعواصف سوداء من دخان نار ممزوجاً برائحة البارود والدم بعد أن فتتت وحدته الوطنية وشوهت هويته العربية وقلصت مساحة مدينة أبو جعفر المنصور بغداد الدائرية إلى قلعة مربعة مسورة بعدد من الجدران العالية سميت قهراً بالخضراء لتكون سجناً لحرية واستقلال وكرامة العراق.
إن القانون الدولي العام والخاص وكل المواثيق الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي المتحضر يمنع السفير المعتمد حرية الحركة في تأدية مهامه الدبلوماسية بحصانة وتقدير متميزين فهل يتحقق شيء من هذا لكل السفراء العرب المحكوم عليهم بالإقامة الجبرية داخل القلقة الخضراء؟
محلل إعلامي
عضو هيئة الصحفيين السعوديين - جمعية الاقتصاد السعودية