(الديمقراطية في الميزان) عنوان كتاب يروي مؤلفه كيف خطى السودان أولى خطواته نحو الاستقلال، كتب مقدمته لورد كارادون الذي قال عن المؤلف: (إن أحكامه على الناس والقضايا تجيء عادة متسامحة أكثر منها ناقدة، فقد سره نطق الملك الحسن الثاني ملك المغرب السليم باللغة العربية، وأعجب بشجاعة الملك حسين وصراحته،
وأخذ بسحر الملك فيصل وقوته، حتى كلامه عن عبدالناصر الذي خدعه في النهاية، كان كلام صديق).
إنه محمد أحمد محجوب رحمه الله (الشاعر ووزير الخارجية الأسبق في السودان) وقد قرأت كتابه هذا الأول مرة منذ أيام، أو على الأصح قرأت - حتى الآن - أقساماً منه، توقفت عند القسم الرابع (اليمن: حرب السنوات الثمان) واستعدت إلى الذاكرة تلك الليلة - أثناء مؤتمر قمة الخرطوم - 1967م - ففي منزله وضع حداً للخلاف بين الرئيس عبدالناصر، والملك فيصل بن عبدالعزيز رحمهما الله، حول التدخل المصري في اليمن، الذي رويت طرفاً منه في الجزء الأول من كتابي (أتذكر) تلك صفحة طويت، لم تبق منها إلا ما رواه محمد أحمد محجوب إذ قال: (لقد ارتكب ناصر، بتوريطه مصر في حرب اليمن، أكبر أخطائه، دخل الحرب بمعرفة قليلة بتاريخ اليمن، وجغرافيتها، وفرقها الدينية الإسلامية، وتركيبها القبلي، ولو أنه فكر كيف أن الإمبراطورية العثمانية حاولت مرة أن تحتل اليمن أربعين عاماً وفشلت، لما أرسلت تلك الحملة، كان لتورطه في اليمن مضاعفات بعيدة الأثر، حين انتهت حرب الأيام الستة، ذلك بأن وجود قوة مصرية كبيرة في اليمن، عقبة خطيرة في سبيل أي جهد عربي مشترك لمواجهة نتائج الحرب، وكان سحب هذه القوة خطوة لا مفر منها لإعادة بناء جيش مصر المقهور.
من المؤلم أن يقرأ العربي والمسلم، أن عبدالناصر اعترف لمحمد أحمد محجوب بأنه (لم يبق في مصر بعد الحرب، أكثر من أربعمائة جندي صالح للقتال الفعال، أما الباقون فإما أخذوا أسرى في سيناء، وإما كانوا في حالة فوضى تامة بعد رجوعهم هاربين) ومن المؤلم أيضاً أن يظهر عبدالناصر لمحمد أحمد محجوب (أنه لو أراد الإسرائيليون الزحف إلى القاهرة، لما كان هناك من يصدهم بين القناة وبيته، سوى أولئك الجنود الأربعمائة).
لا أريد الاستطراد، كي لا أنكأ الجراح، فقد كنت أنزف مع كل سطر من سطور هذه المأساة بل الكارثة، لكن النظر إلى الخلف أحيانا، يعطي المرء المناعة ضد تصرفات خاطئة قد يرتكبها مستقبلا.
لقد عشت تلك الليلة في الخرطوم، ولا أنسى اللحظة التي تسلمت فيها من يدي معالي رئيس الديوان الملكي آنذاك (الشيخ محمد بن عبدالله النويصر) نسخة من الاتفاق المبرم بين الملك فيصل والرئيس عبدالناصر، لإذاعته في أول نشرة أخبار من الإذاعة السعودية، وكيف كان قلبي يخفق فرحاً، حرصا على أن تقوم الأطراف الثلاثة:
السعودية، ومصر، واليمن بدور فعال في وحدة الصف العربي، ووقف استنزاف جهود العرب، وإمكاناتهم الاقتصادية، بل ودمائهم العربية.
ذاك تاريخ مضى، وهذا تاريخ جديد، ومن شاء أن يتعظ ويعتبر فليتلطف بقراءة ما رواه محمد أحمد محجوب، لمجرد العبرة فحسب (فاعتبروا يا أولي الألباب).