حفلت بدايات الاجتماع العربي القديم بقضايا البحث عن جذر لا يسوِّغُ الاجتماع فقط بل يؤسسه بحيث يمكِّنه من الاستمرار، وعاد البحث في هذه المسألة مع تفجر أزمة الهوية في العصر الحديث خصوصاً بعد أن دالت الخلافة العثمانية وسقطت آخر قلاعها، وتعددت الأطروحات الفكرية حول تحديد هذا الجذر آنذاك، وكان من أقواها وأكثرها أتباعاً -كما يذكر المؤرخون- الطرح القومي العربي الذي اتخذ العروبة ديناً بدلاً من الإسلام واستند حين تحديده أسس الاجتماع العربي على المرجعية الغربية البشرية القاصرة، لقد قال الأوروبيون بوجوب إقصاء الكنيسة عن تنظيم مجالات الحياة المختلفة وعدم الاعتداد بالدين أساساً للتجمع البشري فقال القومي العربي مثل ما قالوا، واعتبر الألمان اللغة الواحدة عاملاً كافياً لتوحيد الأمة الألمانية فقال القوميون نحن نملك لغة خالدة تصلح لأن تكون كذلك أساساً مهماً لوحدة العرب، وأقام (مازيني) والوطنيون في إيطاليا دعوتهم التجمعية على أساس التاريخ المشترك وبنفس المنطق قال القومي إن للأمة العربية تاريخاً خاصاً بها وهو-في نظره- أساس مهم من أجل تحقق وحدة الأمة العربية، أما مبدأ المصير المشترك فقد استلهمه القوميون من نظرية (ستالين) في معنى الأمة ونشأتها، لقد اعتُبرت العلمانية في حس القوميين أول الأسس التي ستنهض عليها الأمة، وهذا هو الفارق الأساس بين المنهج السلفي الصحيح الذي أقام عليه جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود أعظم مشروع توحيدي في العصر الحديث وعلى أساسه رفع جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود ما أطلق عليه مشروع (التضامن الإسلامي) والقومية العربية التي رفع شعارها وبارك خطواتها وروج لها جمال عبدالناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب وغيرهم كثير، لقد ظن القوميون أن الخطوة الأولى التي يجب القيام بها من أجل النهوض العربي هي فصل العملية السياسية -على اعتبار أنها المؤثر الأول والمحرك الأساس لجوانب الحياة المختلفة- عن المؤثرات والمقتضيات الدينية، إذ إن اتصال الدين بالسياسة سمة المجتمع المتخلف المعوَّق عن النهوض والصحوة -في نظرهم-، واقتلاع جذور المجتمعات التقليدية بما تشمله من نظم وقيم واجب قومي يجب أن ينبري له أبناء الأمة المدافعون عن ديارهم الساعون لوحدة بلادهم العربية وتقدم أبناء شعبهم ، وفي هذا السياق تَرِدُ الدعوة إلى (إسلام بروتستانتي) يحيل الدين إلى محض صلة بين العبد والمعبود ويقصيه كليةً عن المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وبقية أنظمته التي تنظم ملكوت الأرض، واستمد القوميون مفهومهم لكل من الدين والسياسة من المدارس الغربية، كما أنهم قاسوا الدين الإسلامي على الديانة النصرانية المحرَّفة، مع أن هناك اختلافاً بين مفهوم كل من الدين والسياسة في المرجعيتين، إذ إن الدين في نظر الغربيين قوة معطلة للحياة، لذا يجب أن يظل شأناً خاصاً بين العبد وربه وذلك في أحسن الحالات، وإلا فلا حاجة إليه أبداً. ولا عجب أن يُعرف الدين في المرجعية الغربية -العلمانية- بأنه (الرابط الذي يصل الإنسان بالله)، أما الدين في مرجعيتنا الإسلامية فهو كما اشتهر عند علماء الأمة: (..وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل)، والسياسة في نظر الغربيين أمر دنيوي بحت، يدور معناها حول السلطة وما يرتبط بها من الاستخدام الإكراهي للقوة والصراع حولها، والتخصيص السلطوي للقيم، ومحاولة التأثير في الآخرين، والسيطرة عليهم وكيفية الوصول إلى الحلول الوسط إن تعذرت السيطرة الكاملة. أما السياسة في الإسلام فهي مرتبطة بالصلاح والإصلاح، ومن ذلك تعريف (الإمام الغزالي) لها بأنها: (استصلاح الخلق لإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة)، وعلى هذا يمكن القول إن الفهم العلماني للدين والسياسة وإن كان صحيحاً في سياقه الذي ظهر فيه، ومناسباً لبيئته التي نبت منها، فهو في حس المسلم فهم خاطئ، فمالنا نحن وهذا الفهم إذ إن لنا مرجعيتنا الخاصة ومصطلحاتنا الشرعية، إننا نختلف مع القوميين اختلافاً جذرياً في أن ينسحب المدلول الغربي للدين والسياسة على (الإسلام) و(سياسته) ونرفض إزاحة مدلولهما الذي تقدمه المرجعية الإسلامية، ونرى وجوب كون النظر إلى الإسلام، وفهم دوره في المجتمع، وعلاقته بالدولة، محكوماً بجوهر الإسلام وخصائصه، وليس بمفهوم للدين مستورد من بيئة أخرى ومن سياق اجتماعي وحضاري آخر، ولهذا السبب إضافة إلى عدد من الأسباب المعروفة عند الكثير فشل المشروع القومي في البلاد العربية واقتلع من جذوره، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب العالمية والمحلية على الإرهاب الدموي المقيت والذي يُربط جوراً وظلما بالإسلام وينسب لأهله عادة الإشكالية من جديد وعاد الطرح لذات الجذر وبأسلوب لا يختلف كثيراً عما مضي خاصة بعد الهزات العالمية العنيفة التي أثرت وبشكل مباشر على الحراك الفكري في المشهد الثقافي العربي اليوم ولا زالت الجنازة حارة وللحديث بقية.