في أي عمل حديث ضخم ومنظم مثل: المشاريع الاقتصادية، البرامج الاجتماعية، المناهج التربوية، الحركات السياسية، مشاريع البحث العلمي، من المهم (وأحياناً من الضروري) وجود فلسفة تشكل الأرضية الفكرية والمنهجية والأخلاقية لصياغة سياسات هذا العمل.
ولا أقصد هنا الفلسفة بمفهومها التقليدي الضيق (أي الفلسفة التي تشرح الكون والحياة)، بل الفلسفة بمفهومها الواسع التي هي قاعدة البناء الفكري لأي عمل منظم، مثل ما يتصل بوضع الأسئلة وتحديد الأهداف ورسم السياسات واختيار المنهج وتصميم العمل..الخ. هذه الفلسفة وسياسة عملها يُجيبان على سؤالين جوهريين: (لماذا؟) و(ماذا؟) والتي يتفرع منها العديد من الأسئلة: ما هو جوهر المشكلة أو الحاجة؟ ما هو ظاهر المشكلة أو الحاجة؟ من أين أتت؟ ما العمل؟ ما الحل؟ ما الأهداف؟ ما الثوابت وما المتغيرات..الخ
بعد الإجابة على (لماذا؟) و(ماذا؟) (مرحلة الفلسفة)، ننتقل إلى مرحلة الاستراتيجيا بسؤال أساسي (وتفلسفي أيضا) هو: (كيف؟) وهي تشمل أسئلة: (متى؟) و(أين؟) ما هي الوسائل والطرق؟ ما هي الأدوات والمواد؟. وبهذه المرحلة نحدد الإطار الزمني ومراحل العمل وأدواته ووسائله ومواقعه وترتيب الأولويات. وفي الأخير نأتي لمرحلة التنفيذ وإجراء خطوات العمل.
هذا يعني أنه عند تطبيق أي برنامج عمل أو إستراتيجية، فإننا نحتاج معرفة موادها وأشيائها وطرقها. هذه المعرفة تتطلب نظرية ومنهجاً. وبالمحصلة فإن الممارسة بدون نظرية أو منهج هي ممارسة عفوية سرعان ما تواجه الإعاقات الواقعية. كما أن النظرية أو المنهج بلا فلسفة سرعان ما تواجه الإعاقات الفكرية والمنهجية وصعوبة تحديد السياسات والأولويات.. ويمكن رسم السياق بعدة طرق ومنها هذه الطريقة التبسيطية (ويمكن أن تكون ارتجاعية تفاعلية):
حاجة (مشكلة) تفكير (تفلسف) فكرة (فلسفة) خطة العمل النظرية (الاستراتيجيا) خطة العمل التنفيذية (تكتيك) التطبيق وتنفيذ العمل
لقد تطرقت حتى الآن للفلسفة بمفهومها الواسع وعلاقتها المباشرة في حياتنا، أما الفلسفة بمفهومها الضيق فإن لها أيضا علاقة قوية بحياتنا ولكنها علاقة غير مباشرة، رغم أن الفلسفة ليس لها منفعة مادية مباشرة وليست من المعارف التطبيقية.. وأقصد بالفلسفة هنا هي التي تحاول الإجابة عمّا يشغل الإنسان من أسئلة وجودية كلية، وتحاول شرح الكون والطبيعية وتفسير مشكلات العالم الأكثر عمومية.. وتحاول الإجابة على الأسئلة الأخلاقية: ما هو الخير والشر؟ ما هو الحسن والرديء.. الخ؛ أي المعرفة التأملية، فهي أحد أنماط المعرفة، وتتضمن أساليب للوصول إلى المعرفة عن طريق المنطق (الاستنباطي) والتحليل الذهني والميتافيزيقا..الخ.
الفلسفة هنا لها أدوار عديدة في دعم المعارف والعلوم.. ففي مسألة المعرفة فإن دراسة الفلسفة تمنح العقل القدرة على المناقشة باستقلالية مع مزيد من الموضوعية والانفتاح العقلي. وهي أيضا تستحث الذهن على التفكير المنظم والمركز وعلى إطلاق روح المبادرة. وكل ذلك يدعم النضج الفكري والتعمق في دراسة الظواهر والإلمام بقوانين وأساليب استنباط الحقائق عن طريق البحث والتمحيص.
إلا أن أهم دور للفلسفة هو دعمها للعلوم البحتة (فيزياء، كيمياء..) وللعلوم التطبيقية والمناهج العلمية التجريبية (المناهج الوضعية) لأن هذه الأخيرة تحاول الإجابة على أسئلة مشابهة لما تحاوله الفلسفة ولكن بطريقة أقل عمومية، وباستخدام منهج أكثر عقلانية وأكثر موضوعية ودون تصورات سابقة (التخلص من قبلية الميتافيزيقا)، وأكثر قابلية للاختبار (التقييم والمعايرة والقياس) من الفلسفة.. ولا ننس هنا أن بعض العلوم والمناهج نشأت أساساً من الفلسفة.. فالرياضيات مثلاً ولدت من رحم المنطق..
قد لا ندرس الفلسفة مباشرة كعلم، ولكن ضمن علوم عديدة خاصة في المرحلة الراهنة حيث نجدها في الدراسات الإنسانية (التاريخ، الاجتماع، النفس، النقد الأدبي).. ففي دراسة علم التاريخ تمكنت الفلسفة المتضمنة لهذا العلم في وضع أطر ومناهج وأفكار أكثر عمقاً، فالفلاسفة بعد الثورة الفرنسية (كانت، هيجل، ماركس، فيبر) استنتجوا أن التاريخ له معنى موضوعي (الحتمية، الديالكتيك).. فهيجل يرى أن العقل هو الذي يقود التاريخ، وعلى نقيضه يرى ماركس أن المادة هي المحرك له.. بمعنى أن الأول يرى أن الحراك الاجتماعي والسياسي والتطور عموما يقوده الفكر، بينما يرى الثاني أن العكس صحيح، فالظروف الاجتماعية والاقتصادية هي التي تُنتج الأفكار وتطورها..
ومن هنا تكونت فلسفة التاريخ الحديثة التي تمنح الدراسات التاريخية فائدة كشف القوانين التي تحكم المجتمعات وسبل تطورها. وفي نفس المعني تشكل الفلسفة داعماً منهجياً في علوم الاجتماع (أميل دور كايم، أوغست كونت، هربرت سبنسر)، رغم أن المنهج العملي التجريبي الوضعي الذي وضعه كونت يشكك في جدوى وجود الفلسفة ببعض أجزائها الأساسية (المنطق والميتافيزيقا)، ورغم أن المعرفة العلمية التجريبية دعت إلى نهاية هذه الفلسفة وعدم جدوى التفكير التأملي المبني على خيالات وتصورات فردية أكثر مما هو مبني على وقائع تجريبية مدروسة قابلة للقياس والاختبار والتحديد والتحليل الإحصائي..
إن أفضل مثال يمكنني عرضه على أهمية الفلسفة وتأثيرها في حياتنا هو مثال واضح وسهل من خلال التأثير العملي الهائل الذي قامت به فلسفة الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (ت1952)، حيث وصف مهمة التفكير في مراحلها الخمس (الإيحاءات، إعمال الفكر، وضع الفروض، الاستدلال، التجربة أو الاختبار)، وذلك يعني استخدام المنهج العلمي التجريبي.. ففي علم الاجتماع (التربية على وجه الخصوص) يرى أن كل تفكير حقيقي ينشأ عن مواقف مشكَّلة، وكان يرى أن الطريقة الذكية لتناول مشكلات الإنسانية هي في طريقة التناول (من القاعدة إلى الأعلى)، مبتدئة من الواقع العيني للناس، على عكس الفلسفة التقليدية التي يرى أنها لقرون تتناول المشكلات (من القمة إلى الأسفل).
فلسفة ديوي التربوية تقول: إن تربية الطفل لا ينبغي أن تتم (من القمة إلى الأسفل)، عبر تعليم صارم مقنن في المهارات الأساسية (القراءة والكتابة والحساب)، بل ينبغي أن تتم من (القاعدة إلى الأعلى)، أي أن تربي الطفل تربية (تقدمية) وفقا لما يحسه من مشاعر حقيقية ومشكلات واقعية وبيئة محفزة تستحثه على التفكير ووضع الفروض والتمحيص واستخلاص النتائج والابتكار، على عكس طريقة من (القمة إلى الأسفل) التي تجعل المعلم يقدم العلم جاهزاً للتلميذ وعلى الأخير أن يتلقها وفقا لما يراه المعلم أنه لصالحه، حتى لو كان التلميذ يمقت هذه الطريقة. ولقد أخذت هذه الفلسفة التربوية بالانتشار السريع في أمريكا حتى أنه بولغ في تنفيذها لدرجة حدت بجون ديوي نفسه أن يقلق من هذه المبالغة، ثم أدت بالبعض إلى المطالبة بالعودة للطريقة القديمة...
هذا المثال يوضح أن التطبيق نابع من الفلسفة ومتسق معها.. فمن الفكرة الفلسفية الأساسية نبع رسم الخطة المتسق معها ومنها تم التنفيذ.. وبالمحصلة: لا عمل منظم بلا منهج، ولا منهج بلا فلسفة..
alhebib@yahoo.com