ثمة هاجس يسكن خاطري منذ حين، وهو أن الإيجاز عند عرب البلاغة سر من أسرار البيان، ولنا في كتاب الله الكريم خير أسوة، وأسمى مثال، فكم من آية كريمة جمعت فأوعت في كلمات معدودات من صنوف الحكمة وسحر البيان ما تنوء بذكره أسفار!.
***
* تأملوا معي قول الباري تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الآية)، ومصدر الإعجاز الإلهي في هذه الآية الكريمة ليس في غريب مفرداتها، بل بدلالاتها الواضحة التي تنكر التأويل لها بغير ما خصها به رب العالمين، وعندي أن نصاً كهذا يختصر الكثير الكثير مما كتبه كثيرون من عرب وعجم من منظري السلوك الإنساني في وصف أو (توصيف) تغيُّر الفرد والجماعات والأمم، وهو أن أي تغير (نحو الأفضل) لابد أن ينبع من رغبة فيه، وتسليم به، وحرص عليه، وفي الوقت نفسه، أوقن أن هذه (الوصفة) الإلهية خير مما صنفه منظرو التنمية في أكثر من مكان وزمان!
***
* إذن، فالإيجاز البلاغي في الكتابة فن غير هين، وهو القدرة على التعبير عن أمر ما بأقل الكلام كماً.. وأدلّه معنىً وكيفاً!.. ومن يدري فقد يغني سطر عن صفحة، وقد تغني صفحة عن فصل، وقد يغني فصل عن كتاب! ومن ثم، فإن خير الكتّاب من إذا كتب أوجز بلا خلل، وإذا أوجز أوفى بلا ملل، وهذا هو سر البيان!
***
* ولئن عجبت في شيء فهو اعتقاد بعض الكتاب، والأكاديميين منهم خاصة، بأن الإسهاب في النص دليل نبوغ ومعيار تفوق، وينسحب هذا الظن على كثير من الطروحات الأكاديمية التي يتقدم بها أصحابها إلى الجامعات، وحسبي أن أشير في هذا الصدد إلى أن واحداً من أبرز رموز الثقافة في بلادنا تقدم لجامعة أمريكية ذات صيت قبل أكثر من ثلاثة عقود برسالة (ماجستير) لم تبلغ صفحاتها المئة، فنال بها اعترافاً أكاديمياً وتقديراً مشرفاً، وأدرجت الرسالة مرجعاً علمياً ضمن مقتنيات مكتبة تلك الجامعة! وفي مقابل ذلك، ذُكر لي أن طالباً للدراسات العليا في احدى جامعاتنا أعد بحثاً لنيل درجة (الماجستير) في أحد العلوم النظرية بلغ عدد صفحاتها ثلاثة آلاف صفحة!.
***
* أختم هذه الخاطرة بطرفة أدبية تقول إن أديباً كتب إلى صديق له رسالة مسهبة، ثم ختمها بالعبارة التالية: (معذرة أيها الصديق للاسهاب، فضيق الوقت لم يدع لي فرصة للإيجاز..!).