إنه ذلك الأمر الحتمي، والحقيقة الوحيدة التي اتفقت عليها كل البشرية أبيضها وأسودها، عربيها وأعجميها، غنيها وفقيرها بلا استثناء، وهل من أحد يشك بحتميته؟ |
إنما الخلاف والاختلاف في ما بعده، فهناك من يرى أنه لا شيء بعده، وهناك من يرى حياة أخرى وعالماً آخر، وهذه الحياة الأخرى تختلف باختلاف العقائد والمذاهب، ونحن كمسلمين نرى أن هناك حياة برزخ (في القبر) وفيها نعيم وعذاب، وفيها سعادة وشقاء، ثم يليها الحياة الآخرة، وفيها الجنة والنار، فمن دخل الجنة فقد فاز، ومن دخل النار فقد خاب وخسر. فما هو هذا المتفق عليه، والمختلف على ما بعده؟ |
إنه الموت، وما أدراك ما الموت!! |
الموت له هيبة وله مكانة عند البشر كافة، ويشغل بال المرء منذ رشده إلى موته، وهذا ما جعل من الموت الموضوع أو الأمر الذي لم يغفل عنه شاعر من شعراء العربية، بل إن بعضهم قد تحدث عنه أو ذكره في عشرات المواضع في شعره، ولو ألقينا نظرة ولو سريعة على حديث الشعراء عن الموت، واختلاف نظراتهم وتشبيهاتهم وأوصافهم له لرأينا العجائب والغرائب في هذه النظرات، والتشبيهات، فماذا قالوا؟ |
لقد شبه الشاعر أحمد الفحام الموت ومروره على الأصدقاء والأحباب بمرور الكؤوس للشراب بين القوم فالكأس من يد إلى يد، وكذلك الموت من نفس إلى نفس ومن إنسان إلى آخر، فقال: |
وكان لنا أصدقاء مضوا |
تفانوا جميعاً وما خلدوا |
تساقوا جميعاً كؤوس المنون |
فمات الصديق ومات العدو |
وليس بعيداً عن وصفه قول ابن رشيق القيرواني: |
طوى الدهر عني معشري وأحبتي |
وأهلي وجيراني وأسدي وغزلاني |
كرام سقوا كأس المنية والردى |
فيا ليت من أسقاهم كان أسقاني |
وممن جعل الموت كأساً يتساقاها البشر مع ما فيها من مرارة متناهية الشاعر محمد المعولي العماني القائل: |
الموت أبكى جملة الأقوام |
طرا وأحزن جملة الحكام |
وسقى جميع الخلق كأساً مرة |
وأذاقهم شرباً وطعم سمام |
وأراهم بعد النعيم ولذةٍ |
بؤسا وألبسهم ثياب سقام |
أما طرفة بن العبد فله تشبيه مختلف وإن لم يخل من دقة وجمال: |
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلةٍ |
وما تنقص الأيام والدهر ينفد |
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى |
لكالطول المرخى وثنياه باليد |
والشاعر (اللواح) له أبيات غاية في الروعة تطرق فيها إلى الموت من منظور مختلف أو زاوية مختلفة، فيقول: |
عزاءً وصبراً كل شيء فهالك |
سوى من له تعنو النجوم الشوابك |
فما لذة إلا لها الموت هادم |
ولا حجب إلا لها الموت هاتك |
تموت الرجال الأغنياء رواغماً |
أنوفاً كما مات الرجال الصعالك |
فقد سمى الموت بهادم اللذات وهاتك الحجب، وهذا فيه اتباع ل (أكثروا من ذكر هادم اللذات). وابن مالك الأرحبي يعيد عبارة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي قالها بعد وفاة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فنراه يقول: |
لعمري لئن مات النبي محمد |
لما مات يا ابن القيل رب محمد |
فكل إنسان سيهلك، ولو كان هناك باقٍ من البشر لكان خير البرية محمد. |
يؤكد هذا المعنى قول كعب بن زهير: |
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته |
يوماً على آلة حدباء محمول |
وأما ابن الرعلاء فهو يقدم نظرة مغايرة كلياً لموت الإنسان فيقول: |
ليس من مات فاستراح بميتٍ |
إنما الميت ميت الأحياء |
إنما الميت من يعيش ذليلاً |
سيئاً باله قليل الرجاء |
فالموت عنده موتان: الموت التقليدي وهو خروج الروح من الجسد ومفارقة هذه الدنيا، وهذا بالنسبة له ليس الموت الذي يهمه ويقلقه، بل إن ما يقلقه ويكرهه هو موت الكرامة وموت الأمل في الإنسان! |
وليس بعيداً عن بيتي أبي الرعلاء في المعنى، وإن اختلف في الجزئيات ما قاله أبو علي البصير: |
خبا مصباح عقل أبي علي |
وكانت تستضيء به العقول |
إذا الإنسان مات الفهم منه |
فإن الموت بالباقي كفيل |
فالموت عند أبي علي هذا هو موت العقل وخموده بعد حدته، وضعف الذاكرة بعد قوتها، هذا عند صاحبنا (أبي علي البصير) هو الموت بالدرجة الأولى، والموت المكمل له والمنهي لحياة الإنسان هو خروج الروح، فما أجمله من تقسيم وترتيب للموت! |
وأجمل من هذا وسابقه من حيث ذكر الموت (المعنوي) السابق للحسي ما قاله أبو حامد الغزالي: |
يموت الفتى بالجهل من قبل موته |
ويحيى بروح العلم من بعد ميتة |
فما مات حي العلم يوماً ولم يكن |
بحي ممات الجهل مقدار لحظة |
وإن كنت على يقين أن ما ذكرت من شواهد حول ذكر الشعراء للموت ليس إلا قطرة من (محيط) الشعر العربي الزاخر، فإن ما جعلني مقلاً هو وهن وضعف الذاكرة بسبب مزاحمة الأحداث (والهموم) لما كان فيها من محفوظات ومنها الشواهد الشعرية، وإن نسيت أو غفلت عن شاهد شعري عن الموت فلست بناسٍ قول الشاعر اللبناني قاسم الكستي: |
الموت كأس على كل الورى جاري |
وليس يبقى بلا موتٍ سوى الباري |
فبينما المرء يبني القصر من حجر |
يرى المنية ترميه بأحجار |
|
أنا ممن يكره ويبغض ويمقت الموت المعنوي بكافة أشكاله من: موت الأمل وموت الضمير وموت الفهم وموت الشعور.. وغيرها، أكثر من كرهي وبغضي للموت الحسي. |
|