ما أصعب الحديث بلغة الرحيل إنها لغة صعبة وحزينة بكل مفرداتها فعند ذكر الرحيل تأتي مفرداته مفجعة تعتصر القلوب ألماً وتكحل الأعين بالدموع وتجبر صمت الحزن يسكن مشاعر النفس وتخضب الأحاسيس بألوان الوجع فكم توجع المرء تعابير الفراق وأخبار الوداع وألم الغياب الأخير في كل واحدة منها نهرول صوب ذكريات الأمس (الزمان والمكان) نفتش في (ألبوم) الصور عما كان وقد فات بحلوه ومره وعندما تكاد تخنقنا حشرجات الصدر نحاول أن نحتفي خلف الأمكنة ووراء جدران الأزمنة حزناً، ألماً ونحن في قمة الأحزان ساعتها تكون أحوج ما نكون إلى لحظات من الفرح مثلما أننا في لحظات من الألم نحب أن نسمع عند الفاجعة من يردد كلمات الصبر وجمله وأحسن تعابيره ونسمع من يردد لنا ومعنا ترنيمة كعب بن زهير مذكرنا بساعة الرحيل. |
كل ابن انثى وإن طالت سلامته |
يوماً على آلة حدباء محمول |
لا يعرف كم هي قاسية على النفس كلمة الرحيل والوداع الأخير إلا من فقد والداً أو ولداً أو غابت في حياته أم أو أخت أو أخ أو رزء بفقدان شريكة كانت له ومعه على (الحلوة والمرة) أو فجع بصديق كانت له أيام وجلسات ومسامرات ثم فجأة غيبه الموت في لحظة وقد كان ملء السمع والبصر وكم وكم طوى الردى من نحب وعلي بن عرام يقول جواب هذا: الردى للأنام بالمرصاد.. كل حي منه على ميعاد. |
كم يعز على المرء أن يفقد من يحب وأمام موجات الحزن والألم لا يقوى أن يدفع آلامه وأحزانه ولا يستطيع أن يخفي دموعه لأن سياط الفراق تكوي بلسعاته نياط القلب برغم ما يكتنز قلوبنا من إيمان عامر بأن الموت حق.. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}ولعمرك يا صاح ما أخطأ الموت موعده وجدنا المتنبي يتذكر الموت بقوله: |
وما الموت إلا سارق دق شخصه |
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل |
وأنا بين مخيمات العزاء واستراحات وقاعات الفرح وقفت بين مشهدين عشتها طيلة سنوات العمر عشت ودأبت من يعيش لذة اللقاء وطغيان الفرح وجمرة الحزن ولهيب الفراق وشهدت منظراً للدموع في كلا المشهدين ولكنها (الدموع) كانت ملونة في المشهدين بحسب مقتضياته.. (الفرح والحزن.. اللقاء والفراق) في المشهدين لوحتان مختلفتان الأولى مطرزة بالفرح والابتسامات والدموع ولكنها دموع الفرح والثانية مخضبة بألم الحزن والبقاء والنحيب وكذلك الدموع ولكنها دموع الحزن. |
مزيج من المشاعر الملتهبة والانفعالات القطرية للأحاسيس والمشاعر البشرية صورتان (مخيمات العزاء وقاعات الفرح) ولكنهما في أمواج البشر كل صورة تفوح بطعم ولون ورائحة مختلفة عنها في الصورة الأخرى لكن الصورتين التقتا عند صدق الأحاسيس وهو أصدق صور الوجدان العاطفي إنها لغة الصدق الحاضرة في المشهدين بينما يغيب الصدق - مع الأسف - في صور أخرى من صور الحياة. |
فهل يعيش الإنسان لحظات عمره كلها صدقاً، مستحيل ولكن الحياة مزيج والإنسان بطبعه يحاول أن يفر من أحزانه إلى أفراحه ولكنه كذلك في لحظات الفرح يتذكر لحظات الحزن فيحسد نفسا ثم يقول بصدق (اللهم أعطني خير ضحكي هذا، ما أضعف هذا الإنسان!! وما أجبر هذا الإنسان!! |
|
كم سرنا في هذه الحياة في قوافل بشرية قوافل الأصحاب والأحيان والأقارب وفي محطات من العمر والزمن كنا نقف لنودع من قد دنت لحظته وقارب أجله ثم ودعناه العجيب إننا نعيش لحظات صادقة من الإيمان ثم نعود بعدها إلى الحياة وليتنا نعود ونعي بأن الحياة قصيرة وإن طالت وأن الحياة حب وتسامح وإن اختلفنا وإن في الغد لا ندري من تؤذن شمس عمره بالرحيل ثم يغيب ومعه تغيب رحلة طويلة من الألم والأمل من العمل والتعب ومن الراحة. |
أتذكر ومعي تذكروا كم فارقنا من الأصحاب والأقارب، كم حملنا فهل حققنا كل أحلامنا، كم ظمئنا للحنان والأشواق فهل ارتوينا؟ كم فرحنا فهل شبعنا؟ وكم تألمنا فهل اكتفينا؟ وكم شربنا من أقداح الفرح تارة وتارة من أقداح الحزن فهل طالت ساعات الفرح؟ أو سلمنا من سهام الدهر ومواجع الحياة؟ كم رحلنا وارتحلنا؟ كم من البشر عرفنا أناساً ألفناهم وأحببناهم وأناساً تمنينا لم نعرفهم ولا التقينا بهم، وكم شكرنا الشدائد وأنشدنا قول شاعرنا: |
جزى الله الشدائد كل خير |
عرفت بها صديقي من عدوي |
وكم كنا مضطرين أن نجامل ونداري وكان عزاؤنا قول المتنبي: |
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى |
عدوا له ما من صداقته بدّ |
بعد هذا.. وجدنا أن الدنيا مزيج من الخير والشر من الفرح والحزن من البسمة والدمعة وليس للمرء منا إلا أن يتوجه لخالقه صابراً ململماً كل أوجاعه ومكفكفاً كل دموعه ومتفائلا بغده حدثتكم عن لغة الرحيل ومشهد المرء الحياتي وقد انسكبت حروفي صادقة يشوبها الوجع ويكسوها الأمل.. وقد نلتقي. |
|