كنت أعلم سيدي الوالد أن تلك القدور المليئة في جُل البيوت لا بد أن يكون قِدر بيتي سيمتلئ بمثل ما تمتلئ به أو أكثر.. من اللوعات والمآسي يوماً ما.. تلك القصة الشعبية التي كنت دائماً سيدي ترددها لنا حينما تشعر أن غرور ونشوة الحياة تأخذنا بمنأى بعيداً عما تحتويه الحياة من كبد وضنك، وأنت تحاول منذ أن رأينا السماء أن تلفنا بحنانك الذي حاولت ما استطاعت أن تنأى بنا - بظلاله - عن كبدها وضنك العيش بها في أحلك الظروف التي عشتها، كنت تحاول أن تكون صدراً يتلقى عنا كل ما يمكن أن ينغص العيش.. علمت اليوم سيدي الوالد أن الدموع لم تخلق عبثاً إلا لمثل يوم فراقك القاسي.. |
وأذكر تلك الكلمات التي قلتها حينما نأت بنا الدنيا يوماً في صفحاتها القاسية والتقينا بمشاعر دموع وفرح غامر.. حينها كنت من حكماء زمانك الذي يبصر الزمن القادم بأن دموع الفرح هي نفس دموع اللوعة والحزن التي لا بد أن تمتلئ بها قدورنا يوماً كغيرنا من الناس.. وكأنك تحاول أن تخفف عنا لوعة هذا اليوم القاسي بفراقك.. أعلم سيدي الوالد أن الحياة العاتية التي نعيشها ستقتفيها حياة سرمدية لا نعلم إلا ما علمنا عنها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، خلقها الله لمؤمنين لا بد أن يكابدوا في الحياة الدنيا بما يكابدونه ليدفعوا ضريبة دخول تلك الحياة الموعودة، وأنت كنت تحضنا لآخر ما سقطت قدماك ليلة 27 من شهر رمضان وأنت في أحد بيوت الله عابداً شهد الله وخلقه لك بآخر ما قلت من كلمات سمعها من حولك بأن لا إله إلا الله سبحانه خالقاً وأن لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وأن الحياة فانية، ولا بقاء إلا لله سبحانه، وكانت آخر كلماتك التي شهد بها الله وخلقه لك بجهر قولك.. إلى أن صمت ودخلت في غيبوبة طويلة، أدعو الله أن تكون فترتها تواصلاً لآخر ما قدمته وقمت به من أعمال لله سبحانه وتعالى. سيدي الوالد كانت كلماتك الأخيرة التي تناقلها كل من عرفك وشهد لك حتى حينما ودعوك إلى مثوى رفاتك الأخير وكأن روحك الغالية تحوم في المكان الذي اجتمع به الناس لتوديعك وتودعهم في دنيا الفناء.. سيدي الوالد عشت شامخاً عظيماً تبذل كل ما في يدك للغير، فما لله لله وما للناس للناس.. حدثت فصدقت القول وأحسنت النية والسريرة، وأعانك الله على أحلك ما عشته من ظروف قاسية حتى في آخر أيامك التي أدعو الله سبحانه أن تكون طُهراً لذنوبك البشرية.. |
سيدي الوالد.. لا تستكثر دموعي وأنا أذكرك بكل ما تحمله نفسك وروحك الطيبة الطاهرة بإذن الله من خير لكل من تعرف ومن لا تعرف.. سيدي الوالد.. كنت رجلاً آخر عرفتك غير الرجال، حلم ليتوبيا بشرية قل ما يتصف بها الناس في عصر انقلبت به كل المفاهيم والنيات والمذاهب.. |
سيدي الوالد.. جزاك الله الإحسان بمقدار ما أرضعتنا من الصغر أن نحب الخير لكل الناس، حتى أعداؤنا في أحلك ظروف الحياة القاسية التي قد نواجهها لأن الله يحب السماحة والتسامح؛ فكل خلق الله عباده لم يفرق بينهم إلا بما تحمله نفوسهم من نوايا، فجزاك الله خير الجزاء بما علمتنا به من حب وعشق للوطن بأن نكون له درعاً يحميه، وأنت تعلمنا أن في حب الوطن طقوساً قديمة لم يعها ويتفهم خوافيها بعض من جيلنا المعاصر، كنت في عشقك للوطن شيئاً آخر وحفاظك المتفاني بكل ما يمكن أن نغوص به بأعماق التأمل في حفظك للأمانة والوفاء بالعهد لولي الأمر الذي أرضعتنا سيدي الوالد الحفاظ عليه، وقولك أن كل ذلك يرتبط بهذا الكيان الكبير والمحافظة عليه.. |
سيدي الوالد ما زلت أتذكر كلماتك أن ما لغير الله فانٍ لا محالة، وأن العمل المخلص لله يبقى ما بقي الدهر.. |
سيدي الوالد.. كنت رجلاً آخر لم أكتب يوماً عن مثله ولم أقرأ.. عايشته بعمر أحسست أنه لا يمل، مر كالبرق بأمتع ما عشته من تأمل.. |
رحمك الله والدي العزيز الأفنس ملفي المزودي الشراري؛ فقد كنت سيدي أنموذجاً لقلائل من الرجال الذين يكرمون الجار والضيف والرفيق.. |
سيدي الوالد.. كم كنت أتمنى أن أكون شاعراً لأعبر عما لم أستطع التعبير عنه من حزن لفراقك والدي الحبيب الغالي، لكنني أقتبس من كثير من أشعار الرثاء بك، وهذه الأبيات الشعرية للأخ الشاعر ظاهر بن عازم بن دغيشم بقوله: |
مرحوم يا الشيخ ابو سلمان |
يعطيك من صالح أعمالك |
مرحوم يامكرم الضيفان |
لو تنفدى بالعمر جالك |
يوم الفقر شتت العربان |
اشركتنا برزقة عيالك |
|