أجبت صاحبي - وهو (داعية) وخطيب، يدير مؤسسة خيرية، له جهوده المبذولة في الدعوة - حين سألني عن موضوع محاضرتي في (أبها) الأسبوع الماضي، أجبته بأن موضوعها كان عن (البشائر في ظاهرة الرسوم الدانمركية المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم)، فبادرني وأي بشائر الله يرحم أبوك؟! (هكذا نطقها)، أي بشائر وظاهرة الرسوم المسيئة تتسع مصادرها، فلم تقتصر على سفهاء الدانمارك بل تعدت إلى جهاتٍ غربية أخرى.
قلت: وهذه أولى البشائر التي ذكرتها وهي أن ردة فعل العالم الإسلامي نبهتهم على جانب مؤلم ومجال يستفز ويغضب المسلمين، وهو النيل من مقام وشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن الغضب له صلى الله عليه وسلم والامتعاض ممن يسيء إليه صلى الله عليه وسلم من دلائل محبته بل من آكد حقوق نصرته على أمته صلوات الله وسلامه عليه وبركاته عليه.
وثانيها: أننا أدركنا أن العامة وجمهور المسلمين رصيد للإسلام لا يستهان به، ففي بداية الأزمة كانت نتيجة مقاطعتهم لمنتجات عصبة المستهزئين لمدة عشرة أيام فقط قلت: وهذا من أخطائنا نحن الدعاة الشائعة!! فليس مجال البشائر أخي في حالة قوة وانتصار الدين وأهله ظاهرياً فقط لا.
بل حقيقة التبشير والبشارة، أنها تخلق الداعية بصفاتٍ تستدعي الاستئناس والارتياح والتحبب وبث الأمل في القلوب، والبعد عن أساليب (التنفير) ودواعي الانقباض عند اشتداد الأزمات والشدائد على الإسلام وأهله.
حقيقة التبشير تظهر في الأزمات خاصة، أما حين ينتصر الدين وترتفع راياته وأهله، فلا فضل في التبشير ولا معنى كبير له.
في غزوة الخندق حين اعترضتهم صخرة: فضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرقت تلك البوارق، وبشر بفتح فارس والروم واليمن والحبشة، قال المنافق معتب بن قشير - وفي حسه أن البشائر في الأزمات والشدائد غرور-: يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر ومكة، ونحن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط، ما يعدنا إلا غروراً: أي أمراً يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، فهذا المنافق جهل حقيقة التبشير.
أما أمنا أم المؤمنين أم القاسم خديجة رضي الله عنها فهي العالمة بفقه الدعوة وحقيقة التبشير، فحين حدثها صلى الله عليه وسلم بما جرى له في الغار قالت: (كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا).
وفي الأزمات والشدائد فقه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هذا المعنى للبشارة، فحين قتل أحد أبناء خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه في وقعة (الحرة) كتب إليه زيد بن أرقم يعزيه فيمن قتل من ولده وقومه - كما في المسند ورواه الشيخان من طريق آخر كما في بلوغ الأماني- فمما عزاه به زيد: أبشرك ببشرى من كانت خسائرها وراء اضطرابات وجلسات وتحركات أقامت البرلمان الدانماركي ولم تقعده، حتى (وأدتها) - وياللأسف- مؤتمرات الدعاة النخبوية باستثناءاتهم غير المنضبطة!!! فلم يستمر (تفعيل دور المقاطعة) في قوته وتركيزه العفوي طويلاً ولكن العامة والسواد الأعظم من المسلمين أدوا ما عليهم.
ثالثها: إظهار كثير من فئة التجار والمؤسسات والشركات تدينهم، ومحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم قد كان بعضهم يتحرج ويستحي أن يظهر اعتزازه بتدينه حقيقة وقناعة، أو تمسحا واستغلالا عند بعض.
رابعها: أقنعت هذه الأزمة عملياً جماهير المسلمين ونخبها بأن الأمة يمكن توحدها واجتماع كلمتها على القضايا الكلية حين تجد آلياتٍ شرعية، وقياداتٍ ترشيدية.
خامسها: أزمة الرسوم المسيئة هذه، كانت فرصةً مواتيةً، فرضت ظرفا مناسبا لتدويل ومحاولة فرض قضية احترام الدين الإسلامي التي كان يستحي من طرحها في المحافل الدولية ولم تكن واردة بسبب الهيمنة العلمانية والاستبداد اللاديني.
سادسها: شهدت هذه الأزمة انطلاق عشرات المواقع المتخصصة في الشبكة العنكبوتية والمجلات والمشروعات والبرامج والمؤتمرات التي تصب في جانب تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما شرعيا منضبطا ملتزما بالشريعة مقتصدا، ومئات المحاضرات والندوات والبرامج المتلفزة والمذاعة، والتفنن في طرح مسابقات ووسائل عرض السيرة النبوية الشريفة وتناولها بأشكال وأنماط تجديدية ما كانت لولا هذه الأزمة.
سابعها وثامنها وتاسعها وووو... فقاطعني صويحي (صغير تحبيب ومنه أهيل الحرام) الداعية قائلا: عفوا إذن أنت لا تقصد الانتصار على عصابة المستهزئين به صلى الله عليه وسلم بتوقيف تطاولهم.. الذي هو معنى البشائر الحقيقية؟
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار..).
وكيف لا يكون التبشير في (الأزمات) له دوره وحضوره في خطابنا الدعوي وهو ينشط الهمم للطاعة، ويزيل دواعي الاضطراب ويفرج هم المكروب.
والتبشير من أولى قواعد الدعوة إلى الله تعالى كما في قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام البخاري رحمه الله: (بشروا ولا تنفروا).
ونحن أحق بالبشارة من المبشرين المنصرين لأن البشارة مهمة ومقصد للأنبياء (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(48) سورة الأنعام.
ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم القدح المعلى والمقام الأسنى من البشارة: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)(105) سورة الإسراء.
قال لي صاحبي (الداعية): شكراً لك أتحفتنا وبشرتنا، ليتك تشرك إخواننا الدعاة في حديثك هذا؟
قلت: سأتحف به قراء آفاق إسلامية بجريدتنا (الجزيرة) الغراء، - إن شاء الله تعالى- فودع ودعا وانصرف مسلما.
* الداعية بمركز الدعوة بمكة المكرمة