كلّ كاتب له منهج معين فيما يقدمه للقراء، وأقربهم عند القراء، من يتسم بالصراحة والوضوح فيما يطرح أمام القارئ، ومن منحه الله روحا مرحة، وقبولاً عند الآخرين رغم ما يتخلل علاقته عند القراء، من مقالب تحرج بعضهم لكنهم يتقبلونها، لأنها نوادر غير مؤذية، إذ لا تلبث إلا يسيراً، لتتحول إلى نادرة مقبولة، وضحكة مسلية، ثم تكون مفاكهة تزداد تمكيناً مع الذكريات التي تتحلى بها المجالس.. ترديداً ومؤانسة، وتذكيراً.
ويتقبل الناس النادرة ذات الأثر الظريف، لأنها لا تجرح حضوراً ولا تسيئ في العلاقات، بل توثق الصلة ويتقبلها الآخذ والمعطي ويتذوقها المتلقي.
ومعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر، مع وقاره ومكانته، ورزانة عقله، فإنه يتسم بطابع مميز، يعرفه عنه كل من ارتبط به أيام الطلب، بحضور النادرة، وسرعة البديهة، وحبك الأمور، بدون تباطؤ هذا مع حبه للمزاح الوقور البريء، الذي إن جاء في المجالس زانها، لأنه حديث ممتع، وإن كتب في الذكريات، كان طرفة مشهّية مرغوبة، وإن ذُكِّر به أشخاص لهم تعلق بالقضية، انفرجت الأسارير، على تلك الأيام البريئة التي تمكنها طرائف من هذا النوع وتأصلها ذكريات في إنسان له مكانته، يتقبل ما له وما عليه، وفائدة أخرى بالترحم على من مات ويدعا له.
وقد أحب معاليه تدوين تلك الذكريات، وما فيها من طرافة نادرة، في سلسلة هذا الوسم على أديم الزمن طرحها مع تقدم العمر طرية حدثت في سن الفتوة والشباب، فصار كالملح في الطعام: زانت هذه الذكريات وشهت النفوس إلى المزيد.. فصارت كما قال معالي الشيخ راشد بن خنين، عن صديقه الشيخ محمد البواردي رحمه الله، زينة المجالس.
ولم يكن هذا اللون مما يجب هجره في المنتديات والمجالس لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تذوقه، واعتبره مما يروح عن النفوس ساعة وساعة، لأن النفس إذا كلّت ملّت، ولم ينه نعيمان عن دعاباته، ومزحه الذي يسميه الناس اليوم: ثقيلاً. وقد توسّع شهاب الدين النويري في كتابه: الذي يعتبر موسوعة علمية: نهاية الأرب، إلى نماذج من مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، لما فيه من رفع الكلفة وطهارة القلوب، وكان هذا اللون مما يحبّه ويأنس به الحكام والوجهاء في الدولة الأموية والعباسية، حيث تحولت مجالسه إلى المنادمة والمسامرة، بل أصبح ظاهرة في التراث العربي المدون.
وما ذلك إلاّ أن المجالس بعد سأم الأعمال اليومية، لا تحلو إلا بما يزيل السأم، ويخفف الجدية حتى صار بعض الأطباء يراه علاجاً نفسيا للأبدان، ومخففاً للسأم من جدية الأعمال والأمراض النفسية التي يتغلب عليها.
يقع الكتاب في 373 صفحة مع الفهارس والملاحق، التي استحوذت على (55) صفحة للصور والخطابات المتعددة في الموضوع ومصادرها قد استحوذت على 34 صفحة وعددها تسعة خطابات، أوردها نصاً، وتصويراً، هذا من كمال الفائدة وإعطاء فكرة عن المستوى العلمي في البلاد ذلك الوقت، وهذا هو الجزء التاسع من الذكريات.
خرج الكتاب في طبعته الأولى عام 1428هـ - 2007م، وقد بدأه بمقدمة من ثمان صفحات، أبان فيها أنه اقتصر على عامي 1954 - 1955م عن حياته في لندن وبعض مراحل دراسته للدكتوراة، وهو استمرار لما بدأه عنها في الجزء الثامن علاوة على ما رسمه عن كل شيء مرّ من ذكريات: الدراسة والزملاء والأسر التي سكن معها (5 - 12).
ثم بدأ يتحدث عن ذكرياته التي دوّنها في عام 1954م، من أول الشهر وكان من أبرزها أن الإشراف على الرسالة انتقل إلى الدكتور (هولت)، الذي أجري له عملية، بروستانا، وعلى إثرها أصيب بفقر دم توفي على أثره، وكان عنده آخر فصل من فصول رسالته، وقد انتهى من تصحيحه وهو في المستشفى، قال: وخجلت أن أسأل زوجته عن هذا الفصل واضطررت للرجوع إلى مسوّداتي ولكن زوجته اتصلت بي يوماً، وأخبرتني أنها وجدت بعض الأوراق التي قد تكون مما يخصني، وكان فرحتي كبيرة عندما تبين لي من المشاهدة أنها الفصل الأخير الذي سلمته له، وأنه أكمل تصحيحه وقد تحدث عن علامات تدل على أن المشرف من أسرة راقية، وله هواياته، إلى جانب الأخوانيات، ومنهج الدراسة، وتقرير الجامعات هناك في تعيين الأستاذ في الجامعة بحسب ما يعرف عنه من مشاركات علمية وليس شرطا في التعيين شهادة الدكتوراة، وذكر نماذج من ذلك (ص 13 - 136).
وبدأ ذكريات السنة 1954م بوفاة الملك عبدالعزيز رحمه الله، معللاً بأن هذا التدوين جاء في آخر المفكرة، وإلا فالوفاة قبل ذلك بعام وبالتحديد يوم الاثنين 2 ربيع الأول عام 1373هـ الموافق 8 نوفمبر 1953م في مدينة الطائف، وقد رثاه التلفزيون الإنجليزي والإذاعة والصحف، وكتبوا عنه كتابات ضافية، وشغل ذكره العالم فترة غير قصيرة (136 - 137).
وكانت ذكرياته عن الدراسة والسكن ومرتبه الشهري، وعن تعلمه قيادة السيارة ودراستها واللغات التي بدأ دراستها ولا تخلو هذه الذكريات من مواقف تستحق الذكر وتفيد القارئ عن أسلوب التعامل، نذكر منها نموذجاً واحداً، يتعلق بالمخالفات المرورية، فقال: وقد ذكرني بموضوع قطع الإشارة بمشاكل الدبلوماسيين مع رجال المرور، لأن للدبلوماسيين امتيازات ليست لغيرهم، فقد كان أحدهم عنده سيارة أمريكية فخمة، وجاء وقت صيانتها فأدخلها إحدى الورش، فأستأجر ولعله ابتاع سيارة إنجليزية صغيرة جداً، وأوقف هذه عند فندق، وهو يريد الغداء مع صديق له في موقف لا يسمح فيه الوقوف، ولم يكن على السيارة أي علامة تدل على أن صاحبها دبلوماسي، فلما خرج مع ضيفه وجدا شرطياً واقفاً بجانب السيارة، فلما فتح صاحب السيارة بابها، تقدم إليه الشرطي وسأله:
هل هذه سيارتك؟ قال: نعم.. فخلع الشرطي قفازيه، ووضعهما على غطاء مكينة السيارة (الكبوت) وأخرج دفتره وقلمه، وبدأ يكتب المخالفة، وكان صاحب السيارة وضيفه بداخلها، فأطلّ صاحب السيارة من النافذة وقال للشرطي بلهجة حازمة: لو سمحت لا تضع قفازك على سيارتي:
فنبهت اللهجة الآمرة للشرطي أنها آتية من شخص واثق من موقفه، ويتكلم من مقام أعلى رغم أنه لا يتناسب مع حجم السيارة ولا نوعها، فقال هل أنت دبلوماسي. قال صاحب السيارة: نعم. قال الشرطي: لِمَ لا تخبرني؟ قال صاحب السيارة: لِمَ لم تسألني؟.. وانتهى الأمر. ثم قال:
ويبدو أن الشرطة في إنجلترا تعودوا، على مثل هذه المواجهة، ولذا فالود بين الفريقين مفقود، في أغلب الأحيان؟ والدبلوماسيون لا يهمهم الأمر، رغم أنّ المخالفة تُعيد، وترسل إلى الخارجية، وقد ترى الخارجية مناسبة إرسالها للسفارة، التي يتبعها المخالف، ولكنها تقبر وتدفن في السفارات عند بعض الدول غير المنظمة.
وعلى ذكر الحرفين اللذين يدلان على أن الشخص دبلوماسي (C.D) فالقانون الإنجليزي ينظر إليهما نظرة غريبة فيما يتعلق بأمور كثيرة، وضرب نموذجاً بما حصل لسفير المملكة: حافظ وهبة، الذي لم يطلب في عودته من سويسرا فتح الصالون الخاص بالدبلوماسيين، وإنما اتجه إلى قاعة الاستقبال العامة، وما حصل بعد ذلك (ص 27 - 30).
فالكتاب، بل السلسلة كلها جيدة، وأنصح بقراءتها، لما فيها من متعة وفائدة ومواقف طريفة، وكيفية التعامل والانصهار في المجتمعات الأخرى، ولما بدأنا به عن المواقف الطريفة والمفاكهات، فإنني سأسوق هنا موقفين وأعتذر للقارئ الكريم عن القصة التي أذكرها، في نهاية المقال، حيث أضع أمامه بدلها اليوم حالتين فقط، من دعابات المؤلف، مع إخوانه:
الأولى: في عام 1954م يذكر طرفة مع قيادة السيارة، فيقول جاء قريب لنا إلى لندن، وكنت معه في أغلب الأوقات، وكنت أسكن في فندق خاص في شارع (وست كرمول) بعد أن خرجت من عائلة (دريمبستر) وكان مقرراً أن نذهب معاً: أنا وهو في صباح أحد الأيام وكان يسكن معنا في الفندق فتاة فرنسية وكانت منزعجة من الفندق، لأن سكانه شباب مجمع من جنسيات شرقية مختلفة، وصاحبه لم يكن مريحاً، لأنه من شرق أوروبا النازحين بعد المدّ الروسي الشيوعي، ولأني أصبحت خبيراً بالمساكن التي في الحي طلبت مني أن أساعدها في البحث، وخشيتُ أن أتأخر عن قريبي هذا، ولم أخبره بالحقيقة فيمسك عليّ هذه، وأنني قدمت هذه عليه فاتصلت به وقلت له: إن عندي في هذا الوقت درس في تعلم قيادة السيارة وكما تعرف، وخشيت أن أتأخر عنك فأردت أن أخبرك، وأنني بمجرد انتهاء الدرس أمرّ بك.
ثم زاد الوقت عما هو محدد لتعلم القيادة، فاتصلت به وقلت: إن إحدى العجلات أصيبت بعطب، وإصلاحها يحتاج نصف ساعة فأحببت أعلامك حتى لا تقلق، حسبي الله على الكفرات، ما أكثر ما تعطل.. فاقتنع حفظه الله، ولم يخطر بباله أن هذا غير صحيح.
وأن السبب أمر آخر وكان بينه وبين الأخ عبدالرحمن الذكير - رحمه الله - موعد اللقاء ليتناولا الإفطار معاً، لأنه يسكن في البنسيون نفسه، على شارع (وست كرمول رود) رقم 243، ونحن في نفس الشارع، كما سبق أن ذكرت، وصادف أن أطل الأخ عبدالرحمن من النافذة، فرآني مع الفتاة الفرنسية واسمها (أنِك) فقال لقريبي: انظر العجلة المعطوبة مع قريبك.. فلما رآني نزل مسرعاً، ومع أنه حذر، إلا أنه هذه المرة ذُهِلَ عن عامل الأمان، فعبر مسرعاً إلى الرصيف الذي أنا عليه، ومعي الفتاة (أنِك) الفرنسية، وأخذ يقول: عجلة ما عجلة (كفرات مفرّات).
تضحك عليّ تهزأ بي يا سلام على العجلة التي لم تعرف العطب، لِمَ العجلة ما دام هناك عجلة ويتكلم ويداه على خاصرتيه في منظر يوجب الضحك فقدّمته للفتاة وأفهمتها بالأمر من أوله لآخره، ثم قلت له لأكسر حدّة الاحتجاج، وأخفف من حنقه: أتدري ما قلت لها؟ قال: لا قلت: إنه ليس قريبي البتة، وإنما هو لقيط، وجدناه وعند باب المسجد، فعطفنا عليه وربيناه، فالتفت إليها، وأخذ يوعز بيديه محاولاً نقض ما قلت: ولم يستطع إلا أن يقول: لا. لا. ويضع يديه بجانب بعضهما ليدلا على القرابة، وهي تحاول أن تخبره أنها فهمت قصده وأنه قريبي.
وبقيت الإشارات وبقيت الحيرة، إلى أن وصل عبدالرحمن وهو محل ثقة من قريبي، وفهم الأمر، وزاد غضب قريبي لما عرف أني شرحت لها أمر العجلة، والعذر الذي اتخذته (ص 66 - 71).
الثانية: كان ساكناً في (نيفرن سكوير) وجاء صديق فسكن في البيت الذي هو فيه، والمسؤولة عنه سيدة وقورة ويساعدها أحياناً شابة جميلة اسمها (إلاّ) ويسمونها (علّة) وهذا ظلم لها بحق لأنها لم تكن علّة في جميع صفاتها.. وكانت المشرفة تعطف عليها إلى الحد الذي ظنناها ابنتها، وقد توثقت الصلة بين صديقي وبين المشرفة على البيت، فمرّة طلبت من صديقي الذي لا يتكلم اللغة، أن تلتقط لها وهو و(إلاّ) صورة أمام البيت، وكانت الشمس قد طلعت في ذلك اليوم، بعد طول انتظار فوافق، ووقف الثلاثة أمام الكاميرا، وبعد أن أعددت آلة التصوير قلت لصاحبة البيت، ما رأيك أن أقول لصديقي جملة واحدة تجعله يتراجع عن التصوير؟ قالت: كيف تستطيع وهو كما ترى سعيد بهذا، وكان ينتظر من أيام بزوغ الشمس؟. فقلت: سوف ترين؟.
فقلت له: أتدري لماذا هذه المرأة هي و(إلاّ) تريدان التقاط صورة معك بإلحاح وتصميم؟ قال: نعم إنها صورة للذكرى فقلت: لا. أنا قد لاحظت أن بطن الشابة يكبر، وأخش أنهم يريدون، أن يلصقوا بك التهمة فيدعون أن الجنين ابنك وهذه الصورة الباسمة تدل على السعادة التي تغمرك، وأنت تقف مع هذه الشابة الجميلة.. فذُعر وانفرط بسرعة من بينهما، وأسرع ووقف خلفي وخلف آلة التصوير، وكانت دهشتها بالغة، أما أنا فكاد يغشى عليّ من الضحك. وقد شرحت للمرأتين الموقف، فشاركتاني في الضحك.
وركضتا خلفه، وحاولت إمساكه بالقوة، وتطاردانه لأخذ الصورة وهو يهرب فكن موقفاً طريفاً، وهما تركضان خلفه حتى أمسكتاه وأخذت الصورة، وقد أدرك الحقيقة، فرأى أن ينسجم مع الوضع، وأن يتمتع بهذه المطاردة (ص 104 - 106). وفي هذا الجزء والأجزاء الأخرى، نماذج من هذه المواقف الطريفة، المفاكهات المسلّية، يجدها القارئ في هذه الذكريات.