أولاً:
سأحاول بفرشاتي
لا..لا... بل بمشرطي
أن أفصل الأثاث عن الغرفة
لا..لا.. بل الباب عن الغرفة
سأحاول فصل الغلاف عن الكتاب
الممر طويل مربع
ينتهي بسلم
وأنت لديك منصة استقبال
علي أن أقف أمامها لأحدثك
لكني مازلت مصرا على فصلك منك
بيتك بيتي
ودخوله يشرفني ولا يسعدني
* * *
ثانياً:
أنت لديك أجنحة
أما أنا فلدي أجنحة
لكن بعض أجنحتك مثل شهادتك
وبعض أجنحتي كذلك
في سابع يوم ما
ستستمطر السحب أجنحتي
عليك حنئذ
أن تقيك أجنحتك من مطري
أن تخرج يدك من نافذة الطائرة
وتنثر ما لديك من الحروف.... الصالحة
ربما
* * *
ثالثاً:
على بعض رفوف المكتبة
عش الكذب
حاولت أن أهدمه فلم أستطع
بعد عي ويأس
تلاشى العش من نفسه
بعد أن أخرجت بعض الكتب
إبراهيم الخريف
---------------------------------
حلم في طائرة
---------------------------------
كان الوقت صيف عام 1968م، وأنا في المرحلة المتوسطة، وكانت أحلامي عريضة مثل كل الشباب الطموح، الفتوة، وروح المغامرة، والتطلع إلى كل جديد، وحب المعرفة.
كنت مسؤولاً عن الصيانة في إحدى الصحف عندما أُتيحت لي فرصة ذهبية.. الذهاب إلى بريطانيا للدراسة في أحد المعاهد.. وكان طموحي دراسة الهندسة الميكانيكية في مجال المطابع، وقمت بالاتصال بالوكيل المختص وهو إيطالي الجنسية من مواليد السودان.
وكان يجيد اللغة العربية، إجادة تامة، وكان وكيلاً لتلك الشركة التي تستورد أدوات وقطع غيار المطابع.
وتم تكليفي من قبل إدارة المطابع بطلب قطع غيار لماكينات الصف الآلي وقتها.. وكانت أول تجربة اختبار لي لتحمل مثل هذه المسؤولية.
وقمت بعمل اللازم وتم استيراد قطع الغيار؛ حيث كانت كل الصعوبة تتمثل في الإجراءات الحكومية ذلك الوقت، وكان وقتها الجنيه السوداني من القوة؛ حيث إنه يعادل (2) من الجنيهات الإسترلينية. ومن الصعوبة أن تجد التصديق بالاستيراد.. ولكن بحمد الله تم استيراد قطع الغيار بوساطة ذلك الوكيل..
وعند ذلك طلب مني تنظيم العمل له في مكتبه مقابل مكافأة شهرية؛ حيث وجد أنني أقوم بذلك العمل بكفاءة تامة.. وبالإضافة إلى تلك المكافأة المادية، عندما أنجزت له أول مهمة ساعدني في الطلب إلى الشركة البريطانية للدراسة هناك، وفعلاً قُبِل طلبي في ذلك الوقت.. ولكن؟؟
كانت الكارثة بالنسبة لي عندما تم تأميم الصحف.. منعت المنح الدراسية في ذلك الوقت، وأي جنيه يخرج إلى خارج السودان يعد تهريباً للعملة.. وهنا تبددت الأحلام التي كنت أسعى لتحقيقها..
وبعد فترة تم إلغاء ذلك الحظر وبدأت رحلة الأحلام من جديد.. وتمت الموافقة على ابتعاث عدد من العاملين في الصحف لدراسة الحاسوب في بريطانيا.. وقد تقدمت بطلبي إلى المسؤولين في ذلك الوقت، ونظر في طلبي بالموافقة، وكنت أحلم.. وأحلم.. إلى أن سافرت أول دفعة ولم يكن اسمي من بينهم.. وصرت أحلم.. وأحلم.. إلى أن تم لي ما أردت بتحقيق حلمي ذلك.
وبدأت رحلة البحث عن الحجوزات والتذاكر، وذلك كدفعة ثانية من المبتعثين لدراسة هندسة الكمبيوتر.. وعندما وجدت الحجز كان عن طريق اللف والدوران حول العالم عدة رحلات.. لم يكن الحجز مباشرة.. وقد تستمر الرحلة طويلاً حتى الوصول إلى الهدف.. وعندما استقر بي المقام في تلك الطائرة.. كنت أجلس في صف من الكراسي يزيد على أربعة.. هناك كراسي فارغة جهة اليمين.. وكنت أجلس على الكرسي الذي يلي جناح الطائرة جوار النافذة.. وكنت مهموماً وقتها من هذه الرحلة؛ حيث إنني لأول مرة أسافر بالطائرة، ولم يكن لي معرفة وقتها بالغربة، وكنت صغير السن.. وعند ذلك.. لاحظت أن المضيفة التي تمر بجاني تسألني هل تشعر بالصداع؟ قلت لها لا..!! وأشحت بوجهي عنها إلى جهة النافذة.. وتركتني ومضت إلى تلك الفتاة التي تجلس هي الأخرى وحيدة بأحد المقاعد التي جواري، وكنت أفكر حينها لماذا لم أجد التذكرة في هذه الرحلة إلا بصعوبة مع أن الطائرة يكاد نصفها يكون فارغاً من المسافرين؟؟ وبين كل كرسي وآخر اثنان من الكراسي الشاغرة..
ولاحظت أيضاً أن تلك المضيفة تغمز لتلك الفتاة بعينها.. وترطن معها بكلام لا أسمعه جيداً.. وفجأة شعرت بحركة غير عادية في الطائرة واهتزاز غير عادي وأحياناً يشتد الاهتزاز.. وشعرت بالرعب في أعين الجميع الذين داخل الطائرة وخاصة تلك الفتاة الوحيدة.. التي سارعت وقامت من مقعدها وجلست بجواري من شدة الخوف.. وسألتني بلغة إنجليزية مكسرة هل أستطيع أن أجلس بجوارك.. قلت لها تفضلي لا مانع.. وعلمت أنها طالبة من روسيا جاءت لتتعلم اللغة العربية في إحدى الجامعات في السودان..
وهنا سمعت صوت الكابتن يطمئن الركاب بأن الخطر قد زال إثر تلك المطبات الجوية العاصفة، وكنت بين حين وآخر أنظر إلى جناح الطائرة الذي كان كثير الارتفاع والنزول.. وكأنه يقاوم تلك الرياح العاتية أو أنه سيترك مكانه والذهاب إلى غير رجعة في ذلك الجو والضباب الذي لا نهاية له وفي حركة مستمرة، أنظر إلى تلك الريشات التي تلتصق بمؤخرة الجناح والتي تشبه جناح الصقر وهي تعلو وتهبط تارة وكأنها تقاوم ذلك الإعصار الذي صادفناه في السماء ولا نعرف إلى أين تستقر بنا تلك الطائرة هل في البر أم في البحر.. الله أعلم.. وكان الرعب هو السائد في تلك الرحلة الطويلة.. والصمت والترقب.. وكنت طوال تلك الرحلة أحدث نفسي هل أستطيع أن أحقق تلك الأحلام الوردية التي كنت أحلم بها أم لا.. وفي زحمة تلك الهواجس نسيت تلك الفتاة التي استنجدت بي وكادت أن تلتصق بي من شدة خوفها.. وما زالت تلك الطائرة رغم أن الكابتن كل خمس دقائق يطمئننا، إلا أن الاهتزازات تزداد بين وقت وآخر في ارتفاع وانخفاض ولا نرى غير السحب والضباب الكثيف.. وقد كان الجميع في صمت عجيب لا تسمع غير الآهات والهمهمات.. وتلك الأنفاس التي كادت تسابق صوت صفير الرياح خارج الطائرة.. وصراخ بعض الأطفال بين حين وآخر.. وأخيراً قرر الكابتن أن يهبط بالطائرة في أقرب مكان يصل إليه.. وشعرت حينها بعد مرور ست ساعات عصيبة أن ضغطي بدأ في الارتفاع.. وأن أذني لا تسمع، وأصبحت في شبه غيبوبة أو نعاس يطبق على جفني بقوة ولا أدري هل أحقق أحلامي التي سعيت إليها أم لا؟ وكان كل ذلك يدور في رأسي في تلك اللحظة.. ورجعت بذاكرتي إلى زملائي الذين ودعوني في المطار في منزل العزاب في المقرن.. وهل أراهم مرة أخرى أم لا.. وفي هذه اللحظة شعرت بأن أحدهم يهزني بقوة.. يا أخي قم صل الفجر.. أزعجتنا بالشخير..
عبدالرحمن مستور
---------------------------------
روح
---------------------------------
منذ أربعين عاماً وأنا أبحث عنك. لم أفتر عن البحث لحظة ولم يشغلني عنه شيء.
كنت أتلظى بفراقك فأهرع إلى أماكنك التي تأوين إليها: متجري وبيوت أقاربي وحيث يجتمع أصدقائي في حجرة تعج بسبابهم وقهقهتهم ودخان سجائرهم وفي اللوحة القديمة المعلقة على جدار أمام سريري، وإذ أعثر عليك في أحد تلك الأماكن وتسلمين قيادك لي تخمد حرائقي ولكنك لا تلبثين أن تتفلتي مني كفرس حرون.
اليوم كلّت قدماي دون أن أعثر عليك. عدت إلى حجرتي كسلحفاة عجوز يعصف بي هاجس فقدك، فيقصف التساؤل رعداً: أين أنت؟
لذت بفراشي يائساً، أتأرجح بين النوم واليقظة، تتعلّق عيناي باللوحة المعلقة على الجدار، أحدق بها وأتأمل تفاصيلها ملياً وكأنني أراها للمرة الأولى: مسجد صغير تنتصب في فنائه شجرة ياسمين وارفة الظل تنحني فروعها بحدب على رجل يتكئ بظهره على جذعها ويمسك مصحفاً ويرتل. اسمع صوتاً خافتاً يصدر من اللوحة:
أنا هنا. تعال.
اختنق بالبكاء. أخرج وأركض مذعوراً في الشوارع المزدحمة.
أين أنت الآن؟
ماذا لو تحقق هاجسي القديم بفقدك؟!
يمتزج بضجيج المدينة صوت منغم كحداء آت من حقول بعيدة. أشم رائحة ياسمين فأسير على أثر تلك الرائحة وذاك الصوت.
وصلت إلى فناء مسجد صغير. اتكأت بظهري على جذع شجرة ياسمين وارفة الظل. أمسكت مصحفاً وشرعت أرتل.
مريم خليل الضاني
mariamaldani@hotmai.com