مدخل في مفهوم التعايش السلمي:
يعتبر الحوار الوسيلة الحضارية الوحيدة لإزالة الخلاف، وسوء الفهم واللبس، وللوصول إلى الاتفاقيات والقرارات الحكيمة، ولتحقيق التعايش السلمي بين أتباع الأحزاب والمذاهب والأديان المختلفة.
التعايش السلمي الذي يحمي الشعوب من شر النزاعات، وويلات الحروب، ويجعلها تعيش في الآخر المختلف - فكرياً أو مذهبياً أو عرقياً أو طائفياً أو دينياً - في سلام ووئام، كما يجعل كافة الشعوب تتجه نحو آفاق التنمية والتطور والبناء.
وبمناسبة الحديث عن التعايش السلمي، لا بد من التذكير بمفهوم هذا التعايش، الذي يعني في نظر أحد الكتاب الغربيين: (الوجود المشترك لفئتين متناقضتين في محيط واحد).
(فالتعايش السلمي، معناه: أن تعيش الفئتان جنباً إلى جنب من دون أن تعتدي إحداهما على الأخرى).
ويرى الكاتب: أن التعايش السلمي مصطلح يصدق على الحكومات والأنظمة وليس على الشعوب، لماذا؟!
لأن الشعوب - من وجهة نظر الكاتب - ليست فئاتٍ متناقضة متناحرة، فالشعوب بطبعها تتكون من أناسٍ يفكرون بكسب عيشهم، وإنشاء أطفالهم بسلام، وليس لهم ما يدعو إلى محاربة بعضهم بعضاً.. بينما الأنظمة التي وجدت على الكرة الأرضية، منذ نشوء المجتمع الإنساني على الأرض حتى اليوم، هي أنظمة تعايشت تعايشاً لا سلمياً، إذ إن الحكومات القائمة في العالم لها مصالح مختلفة، ويريد كل منها الاستيلاء على مصالح البلدان القريبة منها أو البعيدة عنها.
ويرى الكاتب أن مفهوم التعايش السلمي إنما نشأ - بصورة بارزة - بعد الحرب العالمية الثانية بين النظامين الاشتراكي والرأس مالي.
كما يرى أن التعايش السلمي يمكن أن يتحقق عن طريق توقيع اتفاقيات السلام بين الدول.. ولكن أثبت التاريخ، وأثبتت التجارب أن أي تعايش سلمي من هذا النوع هو تعايش مؤقت، ولا يدوم، إذ سرعان ما تنقضه الحكومات إذا تغيرت الظروف التي أدت - أصلاً - إلى توقيع الاتفاقيات والدخول فيها.
وبناءً على ذلك.. فإن الشكل الحقيقي الثابت، والممكن للتعايش السلمي بين الحكومات والأنظمة هو أن يكون أحد الطرفين المتناقضين محباً للسلام، ويمتلك من القوة أكثر مما يمتلك الطرف الآخر، بحيث يصبح هذا الطرف الأضعف عاجزاً عن شن الحرب ضد الطرف المسالم الأقوى.
ويشير الكاتب إلى (حركة السلام العالمية) التي تمكنت - بعد الحرب العالمية الثانية - من جمع تواقيع (600) مليون إنسان، للمطالبة بتحريم استخدام القنابل الذرية.. ولكنها لم تتمكن من تحقيق التعايش السلمي في العالم، وبالتالي لم تتمكن من منع قيام الحرب العالمية الثالثة التي بدأت - فعلياً - سنة 2001م، ولا نعلم متى ستنتهي..؟!
بين عولمتين:
إذا كانت العولمة الحديثة القادمة من الغرب تسعى لنشر وتكريس الثقافة وأنماط السلوك والعادات والتقاليد الغربية في العالم، وإلى فرضها على شعوب الكرة الأرضية ولو بالقوة العسكرية، وإلى إلغاء ثقافات تلك الشعوب وموروثاتها التاريخة.. وإذا كانت تلك العولمة تتخذ من الحرب والاستعمار والاحتلال العسكري، وسائل لفرضها على الآخر، وإذا كان من ضمن أهدافها تمزيق الشعوب وتفكيك لحمتها وتفريقها إلى طوائف متناحرة من أجل إضعاف تلك الشعوب، ولتسهيل تمرير أجندتها.
فإن العولمة السعودية التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز تسعى إلى نشر قيم التسامح والتآخي والتعايش بين شعوب الأرض، وإلى ترسيخ مفاهيم الأمن والسلام والمحبة في أنحاء العالم، وإلى تكريس ثقافة حوار الحضارات بين أتباع الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، بدلاً من صراع الحضارات الذي تسوق له أطروحات الحضارة الغربية الوافدة.
كما أن العولمة السعودية إسلامية المنشأ، مستمدة من قول الرب الرحيم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }، وتتخذ من الحوار الهادئ العاقل الرصين وسيلة لنشر مبادئها وتحقيق أهدافها.
كانت بداية الانطلاقة الفعلية لمشروع عولمة الحوار الوطني السعودي منذ الإعلان عن إنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، في الخامس من شهر جمادى الآخرة عام 1424هـ، الموافق للرابع من أغسطس 2003م، حيث إن من بين أهدافه (تعزيز قنوات الاتصال مع المؤسسات والأفراد في الخارج).
ويضم المركز إدارة خاصة للحوار الخارجي، من أهدافها:
- توضيح المفاهيم والقيم السامية للإسلام، والدور الحضاري للمملكة في المجتمع الدولي.
- استثمار الإمكانات والقدرات التي تمتلكها الحضارات المختلفة، بما يؤدي إلى تعزيز المنجز الوطني إلى الإسهام في المنجز الحضاري الدولي.
- تعزيز القيم المشتركة التي تجمعنا مع الآخر.
ولقد شارك المركز في عدة فعاليات حوارية دولية، تهدف إلى التعاون بين الحضارات والثقافات والأديان.
وتوجت هذه المشاركات باللقاء التاريخي لخادم الحرمين الشريفين مع بابا الفاتيكان (بنديكتوس) السادس عشر، الذي أساء إلى الإسلام والمسلمين - صراحة - في وقت سابق.. وباقتراحه - أيده الله - عقد حوار بين أتباع الأديان السماوية الثلاثة: الإسلام، المسيحية، واليهودية.. وذلك أثناء استقباله للمشاركين في ندوة عقدت بمدينة الرياض حول (حوار الحضارات) خلال شهر ربيع الأول 1429هـ، الموافق لشهر مارس 2008م.
مؤتمر مكة المكرمة.. مرتكز
الانطلاقة نحو العالمية:
ترجمت المملكة العربية السعودية نيتها الصادقة، وعزمها الأكيد على مد يدها الطاهرة لمصافحة الآخر، وإزالة كل أسباب الخلاف ومظاهر العداء والكراهية بين الدول والشعوب وأتباع الأديان، ونشر مبادئ التسامح والتآخي والتقارب والتعاون والأمن والسلام في العالم.. وذلك بتنظيم المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي في العاصمة المقدسة، برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين خلال الفترة من 30-5 إلى 2-6-1429هـ، الموافق من 4 إلى 6 يونيو 2008م.
ويجيء هذا المؤتمر - كما أوضح معالي أمين عام رابطة العالم الإسلامي - كفاتحة خير لسلسلة من مؤتمرات الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، وهو بمثابة حوار بين المسلمين، لتوحيد رؤية مشتركة، ووضع إستراتيجية موحدة للحوار مع الآخر، حيث إن هناك اتجاهاً لعقد سلسلة من مؤتمرات وندوات للحوار سوف تنظمها الرابطة في عدد من العواصم العالمية المؤثرة.
وأكد السناتور الأمريكي لاري شو (وهو أحد ضيوف هذا المؤتمر) أن عقد هذا المؤتمر يأتي استجابة لدعوة خادم الحرمين الشريفين للحوار مع أتباع الديانات والمعتقدات الأخرى، وذلك لتحقيق التفاهم مع الحضارات والثقافات الإنسانية، والتأكيد على القواسم الإنسانية المشتركة من أجل التعايش السلمي، والعيش في أمن وسلام بين شعوب العالم.
وأضاف السناتور الأمريكي شو - في تصريح لجريدة الشرق الأوسط - عقب المؤتمر: أن الحوار من الضروري أن يفضي إلى التفاهم المشترك، مما يخفف من الصراع العالمي، ويعمق قيم التعاون والتسامح والوسطية في حياة الناس، ويصون الإنسانية من ويلات الحروب.
مؤتمر مدريد.. خطوة أولى
لبرنامج العولمة السعودي:
نشرت وكالة الأنباء - قبل أيام - خبراً عن عقد مؤتمر عالمي للحوار بين أتباع الأديان يضم علماء وشخصيات دينية من المسلمين، والمسيحيين، واليهود ومن أتباع الفلسفات الشرقية.. يعقد في العاصمة الإسبانية (مدريد) خلال شهر يوليو 2008م.
وذكرت وكالة الأنباء السعودية أن هذا الحوار سيجري خلال الفترة من 16-18 يوليو 2008م، وقد وجه بعقده الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بعد المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار الذي عقد بمكة المكرمة.
وأوضح معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي أن المبادرة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين للحوار بين أتباع الرسالات الإلهية والحضارات والثقافات، حظيت بإجماع إسلامي، برز ذلك واضحاً في نداء مكة المكرمة الصادر عن المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار.
وبين التركي أن الرابطة تلقت العديد من الاتصالات من العلماء والشخصيات والمؤسسات ومراكز البحث الإسلامية والعالمية، تؤكد أهمية عقد مؤتمر عالمي، يجمع شخصيات بارزة من مختلف أتباع الرسالات الإلهية والثقافات المعتبرة، وقادة الفكر والرأي ومحبي العدل والسلام، لاستعراض نداء مكة المكرمة، الذي تضمن ما اتفق عليه المسلمون، ووضع برنامج عملي لحوار عالمي هادف لبناء مستقبل إنساني، تعززه المعتقدات الدينية والقيم والأخلاق والمشترك الإنساني، لمد جسور التعارف والتفاهم والتعايش بين الشعوب والأمم والطوائف المختلفة، ودعوة البشر إلى العودة لخالقهم واستلهام ما أنزله على رسله.
وقال الأمين العام للرابطة: إن المؤتمر العالمي للحوار سيناقش أهمية الحوار بين أتباع الرسالات الإلهية والحضارات والثقافات، ويبحث في تعاون المجتمعات على مختلف أديانها وثقافاتها، فيما تجتمع عليه من قيم إنسانية مشتركة، مما يحقق العدل والأمن والسلام، ويسهم في إشاعة العفة واجتناب القبائح والرذائل، ويحافظ على تماسك الأسرة ويوجه آفات الإرهاب والظلم والمخدرات، وغير ذلك من المآسي البشرية.
وأشار التركي إلى أن المؤتمر يناقش الحوار من خلال أربعة محاور، ويأتي المحور الأول تحت عنوان: (الحوار وأصوله الدينية والحضارية)، ويناقش موضوع الحوار لدى أتباع الرسالات الإلهية والفلسفات الشرقية، والمحور الثاني جاء تحت بند (الحوار وأهميته في المجتمع الإنساني)، ويتضمن مناقشة الحوار وتواصل الحضارات والثقافات، وأثر الحوار في التعايش السلمي، وفي العلاقات الدولية، وفي مواجهة دعوات الصراع ونهاية التاريخ.
والمحور الثالث (المشترك الإنساني في مجالات الحوار)، ويبحث المشاركون فيه الواقع الأخلاقي في المجتمع الإنساني المعاصر، وأهمية الدين والقيم في مكافحة الجرائم والمخدرات والفساد، وعلاقة الدين والأسرة في استقرار المجتمع، ومسؤولية الإنسانية في حماية البيئة.
أما المحور الرابع (تقويم الحوار وتطويره), فسيناقش المشاركون من خلاله مستقبل الحوار، وجهود الدولة والمنظمات العالمية في تعزيز الحوار ومواجهة معوقاته، ومهمة الإعلام وأثره في إشاعة ثقافة الحوار والتعايش بين الشعوب.
وأوضح التركي أنه تم اختيار مملكة إسبانيا مكاناً لانعقاد المؤتمر لما تتمتع به من إرث تاريخي بين أتباع الرسالات الإلهية.. شهد تعايشاً وازدهاراً أسهم في تطور الحضارة الإنسانية.
آمال.. وتطلعات:
أمام مثل هذه المبادرات والمشاريع الإنسانية الكبيرة، تخطر على أذهان المراقبين المحبين للسلام الكثير من الأحلام والطموحات والتطلعات والآمال المتعلقة بالرغبة في خروج عالمنا المعاصر من دائرة الحروب والاعتداءات والعداء والكراهية، والدخول في دائرة السلام وحسن الجوار والتآخي والتعاون في دروب البناء والتنمية البشرية.
وبالخروج من ضيق العصبية الدينية والمذهبية والطائفية إلى سعة التسامح الديني والمذهبي والطائفي والتعددية والتعايش السلمي.
وبالقضاء على المشاكل التي أصبحت تعصف بالكثير من شعوب الأرض - كالفقر والبطالة والمخدرات والتطرف والإرهاب.
وأخيراً بأن يكتب التوفيق والنجاح لهذا المؤتمر، وما سوف يتلوه من مؤتمرات مماثلة تهدف إلى تحقيق السعادة والعدل والحياة الكريمة لكافة الأمم والشعوب.
وما ذلك على الله بعزيز، وليس تحقيق هذه الآمال والتطلعات مستحيلاً.. خصوصاً إذا تذكرنا أن فكرة عقد هذه الحوارات بين أتباع الأديان قد نبعت من عقل ملك الإنسانية عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، هذا القائد الباني الذي يحب للناس ما يحب لنفسه، ويحب للشعوب والحكومات والأوطان ما يحب لشعبه وحكومته ووطنه، وإذا تذكرنا - أيضاً - أن من يقف خلف تنظيم هذه المؤتمرات رابطة العالم الإسلامي وأمينها العام معالي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي.. هذا الرجل الإداري المحنك الذي عرف عنه - من خلال سيرته الإدارية الطويلة - حكمته وقدرته على استقطاب قادة الرأي والفكر والتأثير، وجمعهم على كلمة سواء في الاتجاه الصحيح الذي تفرضه طبيعة الظروف السائدة في المرحلة، ويتطلبه السعي لتحقيق الأهداف السامية للقيادة العليا في هذه البلاد.
مستشار بمجلس الشورى