قضية قديمة عاودت الظهور مرة أخرى وبشكل لافت، تلك القضية سببت لي وللكثيرين من أمثالي صداعاً وربما صراعاً لا يتقاوى على الصمود لفترة طويلة، غير أنه مؤلم بعض الشيء وموتر بعض الشيء
وتتمثل تلك القضية بالتفكير الجاد التي أبدته بعض جامعاتنا باتخاذ قرار بتدريس طلابها باللغة الإنجليزية في بعض الكليات، وأنا هنا لا أقصد كليات الطب والهندسة والتي درجت على التدريس بالإنجليزية منذ وقت بعيد، بل كليات تندرج ضمن العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن أبرزها (العلوم الإدارية)، وثمة حجة بل حجتان للإخوة المؤيدين لهذا النهج أي تعجيم التعليم (بحسب عبارة الدكتور أحمد الضبيب) وهما:
الحجة الأولى: عدم وجود مراجع عربية متميزة في تلك التخصصات، مما يجعل الحصيلة العلمية لطلابنا في غاية الضعف، حيث تتسم المراجع العربية بالضعف العلمي، والتقادم، وهي لا تحتوي على حالات عملية، وتغيب الجانب المهاري، ولا تتعرض للأبحاث العلمية الحديثة أثناء معالجة الموضوعات المختلفة، كما تتصف بعدم ملاءمة طريقة العرض للمحتويات؛ وينضاف إلى ذلك ضعف حركة الترجمة إلى اللغة العربية، حيث تعجز الترجمة العربية عن ملاحقة الجديد في تلك التخصصات من حيث المفاهيم والمصطلحات والنظريات والنماذج والأساليب الجديدة، مما يزيد من تلك الإشكالية، فنحن - كما يقولون - لا نحسن الإنتاج ولا نجتهد في الترجمة!
الحجة الثانية: تلبية حاجة سوق العمل، حيث تشترط الكثير من الشركات إتقان الخريجين للغة الإنجليزية، والجامعات يجب أن تسعى دائماً لتشكيل خريجيها بحسب مقاسات السوق وليس وفق اجتهادات الأكاديميين في تلك الجامعات، لأن ذلك فقط هو ما يضمن حصول الخريجين على الوظائف الملائمة وربما مناصب قيادية، لاسيما أننا مقبلون على مشروعات تنموية ضخمة، وسيكون للشركات الأجنبية فيها حصة كبيرة، فضلاً عن الشركات المحلية أو العربية الكبيرة التي تتخذ من اللغة الإنجليزية لغة رسمية في عملياتها ومراسلاتها، وهنا - بسحب رأيهم - يصبح من المتحتم تشكيل الخريجين وفق تلك المؤشرات والمتطلبات المستقبلية.
ويضيف بعض المؤيدين للتدريس باللغة الإنجليزية أن مسئولية الجامعات في جوهرها مسئولية جزئية Micro، وليس ذات طابع كلي
Macro، فهي تنشط على مستواها هي وليس على
المستوى القومي أو الوطني؛ مما يجعلها مطالبة بأن تتوخى تحقيق مصالح طلابها وفق احتياجات السوق ومقاساته، دون تحمل تبعات ضعف المراجع العربية أو ضعف حركة الترجمة على المستوى القومي أو الوطني، ويؤكدون على أنهم غير مسئولين البتة عن تحمل ما قد يترتب عليها من نتائج يصورها البعض على أنها كيت وكيت!!
ما سبق كان ملخصاً مكثفاً لأبرز حجج الإخوة الأكاديميين المتحمسين لتدريس تخصصاتهم باللغة الإنجليزية، راجياً أن أكون قد تلبست بجرعة كافية من الحياد في عرضها وإبراز مسوغاتها الرئيسة... أحسب أنه عرض فيه قدر من المعقولية على أقل تقدير!
وهنا يجب أن نثّور مجموعة من الأسئلة:
أليست المسوغات السابقة وجيهة ومقنعة؟ ثم ما المانع في التدريس باللغة الإنجليزية؟ وما الخطأ فيه؟ وما الخطر المزعوم؟
وهل يعني ذلك أن المعارضين لتدريس تلك التخصصات يتخذون موقفاً ضدياً من اللغة الإنجليزية ومن تطوير مهارات الطلاب فيها، تلك اللغة التي فرضت كلماتها ومصطلحاتها وبسطت نفوذ أساليبها على العالم برمته، بما في ذلك الشبكة العنكوبتية التي تشكل اللغة الإنجليزية فيها النسبة العظمى (تزيد على 70% كما في بعض التقارير المنشورة 2007). التعاطي مع هذا الموضوع يحتاج إلى طول نفس في معالجة الإشكاليات المحيطة به بنظرة شمولية وتفكير عقلاني؛ يوازن بين المصالح الكبرى والمصالح الجزئية، وبين الإستراتيجي والآني، مما يجعلني لا أتورط بالزعم بأنني قادر على الإحاطة بالموضوع من كافة جوانبه، والإتيان على كامل إشكالياته، مما يستلزم خوض المتخصصين والمهتمين معنا في تلمس الطريق الأرشد والأكثر عقلانية وفق إطارنا الثقافي الحضاري! وكما كثفت حديثي حول أهم حجج المؤيدين للتدريس باللغة الإنجليزية، فقد يكون سائغاً هنا أن أكثف الحديث حول الرأي الآخر في هذه المسألة. فمع القول بصحة المقولة التي تذهب إلى وجود ضعف واضح في أغلبية المراجع العربية، بالإضافة إلى هزال حركة الترجمة العربية، ومع الاتفاق مع مبدأ الوفاء بمتطلبات السوق، والتشديد على أننا كغيرنا نعتقد بضرورة اللغة الإنجليزية في هذا العصر وما يتطلبه ذلك من أهمية رفع مستويات الطلاب وإكسابهم القدرة على استخدام تلك اللغة بشكل فعال، ونحن هنا نركز على من يحتاج إلى تعلم تلك اللغة، من خلال حزمة متكاملة من البرامج والأساليب والأدوات الفعالة لتعلم اللغة الإنجليزية، والتي قد نتطرق إلى بعض الأفكار التفصيلية حولها في مقال قادم؛ ومع تقرير كل ما سبق فإنه يسعنا تقرير أن تدريس تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية باللغة الإنجليزية في جامعاتنا - وبالذات على مستوى البكالوريوس - أمر في غاية الخطورة، ويجب أن يكون مرفوضاً من قبل المفكرين والمثقفين والمؤسسة التعليمية الرسمية ذاتها، وذلك لعدة مسوغات، أجملها في مسوغين كبيرين، ولعلي أركز التحليل في هذا المقال حول المسوغ الأول عبر النقاط التالية:
من المسوغات الكبرى لرفض التدريس باللغة الإنجليزية، أن ذلك التدريس يتجاوز في حقيقته تعلم لغة جديدة إلى الارتباط بثقافة خارجية على نحو يهدد (هوية المجتمع) ويذيب كبرياءها، فاللغة إحدى أهم مكونات هوية أي مجتمع، والتدريس باللغة الأصلية (الأم) يعني بالضرورة تشغيل هذه اللغة لتكون فاعلة في فهم الواقع وتشخيصه وتحريكه، كما يعني الاحتفاء والإعلاء من شأن تلك اللغة وما تحمله من مضامين دينية وفكرية واجتماعية وسياسية في إطار يحث العقل على الاغتراف الذكي من التراث بتجاربه وممارساته المتنوعة. وفي هذا السياق يحسن بنا أن نورد كلاماً جميلاً للدكتور أحمد الضبيب، حيث يقول (ونحن في هذا المقام لا نناقش أهمية معرفة اللغة الأجنبية من عدمها، لأننا نؤمن بفائدة تعلم اللغة الأجنبية، ونعتقد أن تعلمها قد يكون ضرورياً لكثيرٍ من الناس، ولا ندعو إلى التقوقع كما يظن دعاة الأجنبية، ولا إدارة الظهر للغة الأجنبية، بل نستحسن تعلمها بعد المرحلة الابتدائية، لكن هذا شيء، وقلب المناهج جميعاً من عربية إلى أجنبية شيء آخر. فالخلاف إذن ليس في أهمية اللغة الثانية للإنسان في هذا العصر، بقدر ما هو في تحديد الحيز الذي تستحقه هذه اللغة من تفكيرنا وتخطيطنا وممارساتنا اليومية، بالطريقة التي لا تزاحم لغتنا، ولا تؤثر في هويتنا وكرامتنا..) (تعجيم التعليم-2، جريدة الجزيرة، 6-4- 1429هـ). وسنعرض في المقال القادم بعض المشاهد والتهديدات للهوية من جراء التغاضي عن خطورة تدريس العلوم - وبالذات الاجتماعية والإنسانية - لأولادنا وبناتنا بلغات أجنبية بسبب هذه الحجة أو تلك، مع عدم نسيان الحجة المتصلة بنسب عالية للسيدة الجليلة: (العولمة)؛ وما تتطلبه من مرونة وذكاء في التعاطي معها، كما يصور لنا ذلك بعض المثقفين في سياقات الحديث عن الهوية والخصوصية وما شابه ذلك!!
beraidi2@yahoo.com