زاوية تهتم بكل ما يتعلق بالطب النفسي والتنمية البشرية وتطوير الذات.. نستقبل كل أسئلتكم واقتراحاتكم..
* ما المقصود بالإيحاء والى أي حد يصل تأثيره؟
- الإيحاء علم كامل مستقل بذاته، وهناك الكثير من الأبحاث والدراسات الخاصة به. في المجال الطبي مثلاً ترتكز معظم الدراسات الخاصة بالأدوية الطبية في مختلف التخصصات على المقارنة بين الدواء الأصلي المراد إثبات فعاليته وبين دواء آخر وهمي يطلق عليه مصطلح placebo؛ حيث يتم إعطاء حبة الدواء الحقيقية لمجموعة من المصابين مثلاً بمرض القلب، ثم يتم إعطاء مجموعة أخرى من المصابين بنفس المرض حبة وهمية لها نفس شكل ولون الحبة الأصلية، لكنها لا تحتوي أبداً على أي مادة فعّالة في داخلها، والعجيب في الأمر أن ما نسبته 30% في العادة من المصابين بمختلف الأمراض يظهرون تحسناً ملحوظاً عند تناولهم القرص الوهمي placebo، وهو ما يسمى بالتأثير الإيحائي، وهو ما يؤكد أن العلاقة بين المخ وسائر وظائف الجسد هي علاقة في غاية التعقيد لم يصل العلم بعد إلى فك كامل رموزها وأسرارها، والأرجح أن البشر سيظلون يكتشفون المزيد والمزيد مع مرور الوقت {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. هذا الأمر أجبر المرجعيات الطبية المعتمدة على رفع سقف التأثير المنتظر من الدواء لاعتماده فعلياً كدواء مؤثر في علاج الحالات المختلفة بحيث يجب أن يتجاوز تأثيره على الأقل ضعف النسبة المسجلة للدواء الوهمي حتى يتم اعتماده كدواء يتخطى تأثيره التأثير الإيحائي النفسي، وهو الأمر الذي ينطبق مثلاً على أدوية الاكتئاب التي تسجل تأثيراً فعلياً يتجاوز علمياً تأثير الإيحاء بكثير، مثلها في ذلك مثل بقية الأدوية الطبية المعتمدة في المجالات المختلفة. الأشخاص يختلفون في قابليتهم للإيحاء؛ فالبعض قابل للإيحاء أكثر من غيره؛ ولذلك فالتنويم الإيحائي (التنويم المغناطيسي سابقاً) يمكن تطبيقه بطريقة أسهل على الشخص القابل للإيحاء بينما يوجد أشخاص أقل قابلية لذلك. لكننا في النهاية جميعاً كبشر لدينا درجة معينة من القابلية للإيحاء شئنا أم أبينا؛ فنحن معرضون بشكل متواصل لرسائل إيحائية سواء كانت إيجابية أو سلبية، لها تأثير مؤكد على سلوكياتنا ومشاعرنا، خصوصاً أثناء مرحلة الطفولة والمراهقة. لنأخذ مثالاً واضحاً على ذلك، وهو الإعلانات التجارية؛ فالمعلن التجاري يدرك من خلال اهتمامه ودراسته لهذا الجانب أنه حتى ينجح في دفعك نحو شراء المنتج فإنه ليس بحاجة إلى سرد معلومات وحقائق خاصة به، بل عليه أن يتوجه نحو عاطفتك ومشاعرك برسائل بصرية (صور) وسمعية (حوارات) ذات طابع إيحائي خاص تتوجه ليس لعقلك الواعي بل لعقلك الباطن (المشاعر والعواطف)، وهو الذي يحدد بشكل أكبر سلوكياتنا وتصرفاتنا الشرائية، وبالتالي فهو المستهدف بالدرجة الأولى؛ لذلك فالإعلان التجاري الخاص بالدخان كمثال يهتم كثيراً بالتفاصيل البصرية؛ حيث يظهر لك فارساً مفتول العضلات ذا قوام رشيق، يمتطي جواداً في غاية الجمال، وهو يدخن (أليست هذه هي الدعاية أو الجريمة على الأصح التي ظلت تعرض علينا في وسائل الإعلام لسنوات!!!). لا يهم بعد ذلك بالنسبة لشركات التبغ المعلنة التحذير العلمي المكتوب حتى وإن كان بحروف كبيرة: التدخين سبب رئيسي للإصابة بالسرطان. لا يهمهم ذلك لأنهم يعرفون أن تأثير الإيحاء الذي تتضمنه الصور بما تحمله من مشاعر وأحاسيس هو أقوى وأهم من المعلومات المجردة؛ فالحقائق والمعلومات هي الأقل تأثيراً في سلوك الإنسان؛ ولذلك فإن أي مدخن في عالمنا الحالي لا يمكن أن يجهل هذه المعلومة (إن التدخين يسبب السرطان)، ومع ذلك يظل يدخن لأن تغيير السلوك يحتاج إلى موقف، والموقف بالدرجة الأولى هو حالة عاطفية تؤثر في السلوك.
أختم بسؤال أتركه هكذا بلا إجابة:
لنفترض أنك خرجت من بيتك في أحد الأيام وأنت تشعر بصحة ونشاط عالٍ ثم قابلت صديقاً قديماً قال لك: لماذا تبدو شاحباً ولونك مخطوف! كيف ستشعر بعد ذلك؟ وإلى أي درجة هذا الإيحاء يمكن أن يؤثر عليك؟ ماذا لو كان صديقك هذا طبيباً.. هل ستتأثر أكثر؟ يقال إن الوهم أحياناً أشد من المرض.. أليس كذلك؟!!
إدارة المشاعر
* إلى دكتوري العزيز أنا فتاة أبلغ 20 عاماً، أعيش مع أبي وزوجة أبي وإخوتي الأشقاء وغير الأشقاء، مشكلتي أن مشاعري دائماً ظاهرة بشكل واضح، وغالباً ما تظهر في مواقف ولا أستطيع التحكم فيها. انفعالاتي ظاهرة بشكل سريع، حين أود أن أسأل أحداً عن حق لي تبدأ عيناي بالدموع، وأحس أني لا أستطيع مواصلة الحديث رغم أني أود كثيراً ودائماً أن أفرغ ما بداخلي. أتوقف عن الحديث لأن البكاء يغلب علي. كيف أوقف هذه الصفة؟ كما أنني لا أستطيع أن أوضح لك يا دكتور كيف أن استعجالي باتخاذ القرارات مبني على المجاملة، ليس برضا حقيقي مني لأنني أحس بتأنيب الضمير كثيراً، وأحاول أن أبادر بالاعتذار للآخرين أحياناً حتى لو لم أكن أنا المخطئة؛ لأنني لا أحتمل أن يمر اليوم وهناك أحد متضايق مني. أرجو أن أكون وضحت ما أعاني منه. وشكراً لك.
- أختي الكريمة، المعاناة الواردة في رسالتك يمكن تقسيمها إلى قسمين: الأول يخص عدم قدرتك على التحكُّم في مشاعرك عند الحديث؛ حيث تسبق دموعك كلماتك، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بموضوع يمس حقوقك وإحساسك بالظلم. هذا عائد بدرجة كبيرة إلى طبيعة شخصيتك؛ حيث يبدو أنك من الشخصيات الحساسة جداً والعاطفية، ومشكلة هذا النوع من الشخصيات أن عواطفهم ومشاعرهم دائماً هي التي تسبق، خصوصاً عندما يتحدثون بحماس؛ حيث تبدأ مشاعرهم في التدفق بقوة وغزارة، ويمكن أن تفاجئهم في شكل دموع في توقيت غير ملائم نتيجة عدم قدرتهم على احتواء وإدارة هذه المشاعر بشكل سليم. أعتقد أيضاً أنك وبعد أن بدأت تلمسين وجود هذه المشكلة أصبحت أكثر خوفاً عند الحديث أن يداهمك البكاء، هذا الخوف من أن تداهمك المشاعر يجعلك في وضع أكثر انفعالاً، وبالتالي تجدين أن ما تخشينه هو الذي يحدث في الكثير من الأوقات، أي يداهمك البكاء في الوقت الذي تبالغين في الحرص فيه ألا يحدث ذلك؛ لذا فنصيحتي لك في كل مرة تودين فيها التحدث عن موضوع يخصك أن تبدئي أولا بالجوانب غير الحساسة لديك، وتتحدثين عنها بهدوء، وعندما تكتسبين الثقة أكثر أثناء الحديث تنتقلين بهدوء شيئاً فشيئاً وبنفس الإيقاع إلى المناطق الأكثر حساسية، مع تقبّل ما يمكن أن يحدث في البداية؛ لأنه ليس من السهل تغيير نمطك العاطفي في الحديث بين يوم وليلة، لكن يمكن ذلك مع الوقت والممارسة. وعيك بهذه الصفة فيك يجب أن ينبهك إلى أنك بحاجة أكثر إلى كبح جماح عواطفك المتقدة، أي التدريب على التحدث دائماً بهدوء وروية أكثر، وعندما تحسين أنك بدأت في ركوب موجة الحماس المتقد عليك أن تعودي بنفسك مباشرة إلى الرتم الأهدأ قبل أن تأخذك موجة الحماس تماماً فلا تستطيعين الرجوع. هذه إحدى تقنيات إدارة المشاعر بشكل فعّال، وأنصحك بقراءة كتاب mind over mood أو العقل فوق العاطفة، وهو كتاب مترجم ومتوافر في المكتبات الكبيرة.
أما الجزئية الثانية فهي تتعلق بالمبالغة في إرضاء الآخرين؛ حيث نطرح آراء قد لا تعبر عنا حقيقة بقدر ما تعبر عما يحب الآخرون سماعه. هذا السلوك بالتأكيد يشكّل عبئاً ثقيلاً على صاحبه؛ لأن الاختلاف في النهاية سُنّة من سنن الله في الكون، ولا يمكن أن يتفق الجميع على رأي واحد أو على شخص واحد، فإذا ربط الإنسان تحقيقه لذاته برضا الناس الدائم عنه وعن آرائه فإنه يكون قد بدأ رحلة من البحث المضني عن هدف وهمي صعب بل مستحيل التحقيق، ولن يعود عليه إلا بمزيد من المعاناة والتعب. كما أن طرح رأي لا يتوافق مع الآخرين هو حق مكفول لكل إنسان طالما أن هذا الطرح يكون بأسلوب جميل وهادئ وليس فيه إساءة لأحد، عندها إذا غضب شخص ما من مجرد الاختلاف فهذه مشكلته هو وليست مشكلتك؛ فنحن نرى القضايا المختلفة من زوايا مختلفة، وهذا هو ما يحقق تكاملنا، أما من يسعى إلى أن نصبح متشابهين تماماً في أفكارنا وسلوكياتنا بل ومشاعرنا فهو يبحث - ربما عن جهل - عن وأد إحدى أهم الصفات التي وهبها الله سبحانه وتعالى لخلقه وهي صفة الاختلاف الذي يؤدي إلى التكامل. عموماً أختي الكريمة مازلت بعمر صغير، وكلما تقدم بك العمر ستصبحين أكثر استقلالية في التفكير وأقل انشغالاً بالطريقة التي يراك بها الآخرون.
أيضاً أنصح في هذا المجال بقراءة كتاب the syndrome of bleasing أو متلازمة إرضاء الآخرين، وهو كتاب مترجم ومتوافر في مكتباتنا أيضاً.
أسأل الله لك التوفيق والنجاح الدائم.
إضاءة:
تصبح الأزمة نقطة سقوط فقط إذا فشلنا في تحويلها إلى نقطة تعلم وارتقاء.
دكتوراه في الطب النفسي - كلية الطب ومستشفى الملك خالد الجامعي - الرياض
e-mail: mohd829@yahoo.com