إذا وجدت إنسانا يعاني من العزلة العاطفية بين أقرانه وبني جلدته حتى زملائه في الدراسة أو العمل أو الحي، ويعاني عسرا في التواصل مع الجميع حتى وإن كان يجالسهم بحكم الزمالة، فاعلم رعاك الله أن هذا التائه اجتماعيا قد أقصى نفسه بنفسه، ولو تأملت كيف يتعامل ويتخاطب مع من حوله لوجدت السبب جلياً واضحاً، فإني أجزم أنك ستلاحظ أنه يسابق حديث الآخرين باعتراضات متذاكية واختلاف مفتعل أو منفعل يقنع به نفسه أنه حاضر في المجتمع، وأن مازحه أحدهم عصف بوجهه بمزحة أثقل من أن يهضمها ملح الإنجليز أو عشرق الشرق، ذلك (أنه يرى) إن الرد بلسان أحد من الموس هو المنطق المقنع لإظهار النبوغ وعلو الشأن ولصد تطاول المتطاولين، ولم يعلم أنه كلما فعل أو افتعل مثل هذه المناورات بأنه شطب جزءاً من رصيده المتبقي لدى الآخرين، إذ إنه لم يُبق لهم إلا أن يعاملوه كإنسان دون النظر لأي اعتبارات أخرى كالحميمية والوداد والصداقة والجيرة والقرابة ونحوها، فهي في الأصل عندهم قد نُحيت جانبًا في التعامل معه ولم يبق إلا عنصر الإنسانية المجرد من أي عاطفة نحوه، فكلما زاد في صلفه أمعن في إقصاء نفسه من أي تواصل مجتمعي وأُسري فهو كمن يجلب العداوة لنفسه، والحكمة تدعو دائما لأن يكون الإنسان صديق الجميع وأن يعلم أن التنازل والتواضع في بعض الأمور لا يعني المهانة والخضوع.