علمت من زميلتي في تخصص الدراسات الاجتماعية د. الجازي الشبيكي أن الوزير الجديد للشئون الاجتماعية د. يوسف العثيمين وهو أيضاً زميل في نفس التخصص (قرأتُ له قبل أن يصير وزيراً عدداً من البحوث ومنها بحثه المشهور في تناول الجذور الاجتماعية للإرهاب)، بأنه حال تسلُّمه لمهام عمله قام بعقد اجتماع مع عدد من قيادات العمل الاجتماعي الأهلي.. وقد فهمت بأن مبادرته هذه تُمثِّل نوعاً من محاولة التعرف على واقع الحال من خلال الإصغاء للعاملين والعاملات (ميدانياً)،،
في مجالات الشأن الاجتماعي مثل الجمعيات الخيرية وعدم الاكتفاء فيه بمراجعة التقارير البيروقراطية أو التصورات الافتراضية عنه.. وقد لمست من حديث الزميلة الشغوفة بالشأن الاجتماعي أن مثل هذا التواصل يبعث أملاً بتطوير الأنظمة والأداء وبوضع نظام للمشورة المجتمعية وآخر للمراقبة والمحاسبة مع البحث عن وسائل فعَّالة للوصول إلى الناس في هذه الوزارة بناء على معطيات الواقع.. (وعلى كل فإن التنويه بهذه البادرة يعود لأن وزارة الشئون الاجتماعية من الوزارات التي ليس من داعٍ لوجودها إن لم تتماس مع القضايا الاجتماعية المهمَّشة عادة مثل قضايا الفقر وقضايا الترمُّل والتصدُّع الأسري أو قضايا (التسول) المعروف سعودياً بمعاريض الاستعطاء خصوصاً أن جمهور هذه الوزارة في الغالب ممن ليس له سطوة في المنابر الإعلامية فأغلبهم من الشرائح الاجتماعية الرقيقة التي ليس لها ظهر, فتسكت تعففاً أو تنكفئ على آلامها في صمت مكتفية بالدعاء على من كان السبب).. على أن الجملة التي بين قوسين لي وليست للدكتورة الجازي فأتحمَّل وزرها أمام الوزير وحدي.
وهذا مما يجعلني أفرد مقال هذا الأربعاء لتناول موضوع الشئون الاجتماعية.. وأبدأ بتذكير الوزير الجديد بما لا بد أنه يعرفه من مواجع العمل الاجتماعي وتطلعاته.. فهو يأتي إلى وزارة الشئون الاجتماعية في وقت ارتفع فيه التضخم الاقتصادي إلى معدلات فلكية واشتد فيه الغلاء وما يحمله معه من أشكال الابتلاء المجتمعي على الفئات المتوسطة فكيف بمن لم يصلوا أصلاً لحال من الكفاف؟.. كما أنه يأتي إلى وزارة الشئون الاجتماعية في زمان لم يعد فيه العمل الاجتماعي حكراً على الحكومات.. كما أن صياغة تصوراته وحلوله والمشاركة في شئونه وشجونه لم تعد شأناً حكومياً خالصاً.. على أن العقدة ليست هنا فحسب بل إنها أيضاً في واقع أنه في نفس الوقت الذي ترتفع فيه أصوات المطالبة عالمياً بتوسيع قاعدة المشاركة الأهلية في العمل الاجتماعي فإنه ليس لأكثر الحكومات ديموقراطية ولا لأشدها فقراً حتى تلك الغارقة في المديونيات أن تتخلى عن مسؤولياتها التمويلية لقطاعات عريضة من العمل الاجتماعي.. وهذا الواقع يشمل تلك الدول التي لا تُمانع (التمويل الخارجي للعمل الاجتماعي الداخلي) سواء أتى من بعض الدول الغربية المانحة أو منظمات دولية كالأمم المتحدة.. وضمن هذا التوجه العالمي في مسؤولية الحكومات التمويلية للعمل الاجتماعي بشقيه الرسمي والمدني يصبح حرياً بوزراة الشئون الاجتماعية التفكير جدياً بتحمُّل مسؤولية تمويل العمل الاجتماعي المدني بصيغه غير التقليدية كما يكون مشروعاً لها التقدم للحكومة بطلب توسيع ميزانيتها للوفاء بمتطلبات العمل الاجتماعي شرط ألا تُصرف في أوجه المظاهر الوجاهية, خصوصاً أن العمل الاجتماعي المطلوب يأتي في دولة تُعتبر مملكة الإنسانية وتنتدب نفسها اليوم للمساهمة بسخاء في صناديق مقاومة موجة الغلاء العالمي.
وتُعتبر الكتابات والتجارب في العمل الاجتماعي ومنها الشئون الاجتماعية في علاقتها تحديداً بأطروحة المجتمع المدني أحد المداخل التي لا يجدر بنا استبعاد توظيفها توظيفاً إيجابياً فيما يتعلق بشراكة القوى الاجتماعية وبخدمة الشرائح التي تحتاج أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وربما الثقافية والصحية إلى إعادة تأهيل وربط بالسياق الاجتماعي العام فلا تعيش على هامش المجتمع أو تتعيّش من خلال الاستعطاء لما هو حق لها في المال العام.
وإذا كان بعض ما تمَّ التعارف عليه من تعريفات المجتمع المدني في علاقته بالعمل الاجتماعي قد ربطه بالمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة خارج المظلة الحكومية وليس طبعاً بالخروج عليها، وإنما ضمن منظومة العمل الأهلي كالجمعيات المهنية فإن الإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية الاجتماعية بما فيها جمعيات النفع العام كالجمعيات الخيرية تُعتبر من أساسيات تأسيس وتفعيل المجتمع الأهلي لتدريبه على المشاركة العامة في مواجهة وحل شئونه الاجتماعية.
لا بد من الإقرار بأن مسؤوليات القيادة بوزارة الشئون الاجتماعية وأطقمها العاملة من داخل الدائرة الرسمية للعمل ومن المجتمع بما فيها القوى الاجتماعية المتفاعلة والمستهدفة والمستفيدة من خدمات الشئون الاجتماعية مسؤوليات ليست سهلة.. ومن أولى هذه المسؤوليات العمل على وضع خطة إستراتجية شاملة تتم فيها مراجعة الأهداف والآليات والأنظمة التي يمكن بها مواجهة والتعامل مع هذا الوضع المركب بين مطلب المشاركة المجتمعية الأهلية في العمل الاجتماعي مع تقديم ضمانات باستقلاليته وبين مسؤولية الوزارة في الدعم المالي والنظامي والقانوني للكثير من أوجهه خصوصاً في الفترة الراهنة من هذه المرحلة الحرجة التي تمر فيها مسألة التمويل للعمل الاجتماعي عامة والعمل الأهلي خاصة بمحاسبة دقيقة إن لم تكن عسيرة بناء على الحسابات والتحسبات الدولية وليس المحلية وحسب.
ومن مطالب المواطنين بحسب متابعتي كباحثة وكاتبة لواقع مجتمعنا السعودي في هذا المجال أقتطف النقاط التالية:
1- لا بد من الشراكة في العمل الاجتماعي بين المؤسسة الرسمية وبين المجتمع بفتح الباب لتأسيس الجمعيات الأهلية التي تُعنى بتقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والمهنية لمختلف قطاعات المجتمع ولخدمة مختلف الفئات الاجتماعية.
2- يُوجد فراغ في العمل الاجتماعي الأهلي في مجال العمل الحقوقي والعمل النسوي ومجال الطفولة خصوصاً.. مما يستدعي العمل الرسمي والأهلي لسد هذا الفراغ.. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنه رغم الحاجة إلى تكوين جمعيات لحماية الأطفال من العنف أو لنشر ثقافة التسامح الاجتماعي في المجتمع أو لحماية الحقوق المعنية أو حق التعبير فإن مثل هذه الحاجة تظل في حكم أحلام الصحو ما لم يكن في سياسة الوزارة وأنظمتها ما ينص على إعطاء تصريح بتشكيلها.
3- لا بد من إعادة النظر في نوع وكم المعونات الاجتماعية التي يسميها البعض بسخرية مريرة لشحها ومذلة استعطائها ب (الإهانات الاجتماعية) مما يُقدم للمسنين وللمعاقين ولمن يعيشون تحت خط الفقر في بيوت آيلة للسقوط أو تحت الكباري وعلى الأرصفة بما يتناسب مع الارتفاع المطرد في تكاليف المعيشة.. ولا بد أن تكون بحسب حجم الأسرة المحتاجة.. كما يجب ألا تكون مجرد إعانات سنوية كفافية مقطوعة بل إعانات شهرية جارية وكافية وميسرة تصل إلى أصحابها في حوالات بنكية فلا تتبدد قيمتها القليلة على أية حال في رحلات التردد على مقر الوزارة بالعاصمة بسيارات (الليموزين) الباهظة على أحوال مستحقيها الرقيقة.. وأظن الوزارة قد شرعت في تجربة الصرف الإلكتروني لبعض الفئات إلا أنه أسلوب يحتاج إلى تعميم وإلى خلق ثقافة به في غير المدن الرئيسة.
4- مع أن هناك من يقول مثلاً, وهذه حالة تفصيلية واحدة أتوقف عندها من عدد كبير آخر من الحالات التي لا مجال لتفاصيلها هنا، بأن الوزارة يجب ألا تتكفل بالأم أو الأب ممن هم في (حاجة) في حالة أن لدى أي منهم أبناء يعملون، فإن حل مثل هذه الحالة لا يكون بحرمانهم من المال العام الذي لهم حق فيه.. لكن وإن كان ولا بد فلا بد من اتخاذ إجراء قضائي وتنفيذي يضمن أن يصلهم ما يكفيهم بصورة منتظمة من مال الأبناء.. ومثل هذا ينطبق على الأمهات المطلقات ذات الأطفال الذين يتخلى الآباء عن مسؤولية الإنفاق عليهم دون محاسبة.. فالوزارة يُمكن أن تعيد توزيع مسئوليتها المالية في مثل بعض هذه الحالات ببعض الإجراءات الحقوقية الملزمة.. وبإشاعة وعي اجتماعي حقوقي يضيق رقعة (العالة) عليها.
5- لا بد من إعادة نظر في الحال الاقتصادية للعاطلين عن العمل وتوفير راتب معاشي بديل ريثما تجد لهم وزارة العمل عملاً.
6- لا بد من مراجعة تعمل على نشر الوعي وبالتالي العمل التطوعي بين الشباب بما يشكِّل عملاً مؤازراً لنشاطات الوزارة في خدمة الشئون الاجتماعية.
7- لا بد للوزير ولفريق عمله خصوصاً من بيدهم القرارات الوزارية المتعلقة بحياة الناس الاطلاع على ما يجري على أرض الواقع ولن يتسنى لهم ذلك إلا بالخروج من تكييف مكاتبهم بالعاصمة إلى حرور أو برودة الحياة اليومية في العبيلة وشرورة وصبيا والهفوف والقطيف والمبرز وملهم والقصب والبرود والزلفي وسكاكا وعرعر وتهامة وصامتة وسواها الكثير من مواقع القلب على امتداد تراب الوطن الغالي بصحرائه وسواحله وسهله وجباله وأوديته.
هذا مجرد رذاذ من بحر الشئون الاجتماعية وأحلامها الحلال على أمل أن نسمع ونرى ونلمس ما يشفي الشجون قولاً وفعلاً.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyaat@maktoob.com