من بين المزارع المهجورة في طرف القرية.. ومن وراء شجر الأثل الضخم الواقف بخشوع.. يتهادى مقبلاً ذلك الشيخ العجوز..
ألغاز الأرض كلها لو اجتمعت لم تكن أكثر إلغازا من أبي سعيد!
حتى علامات الاستفهام.. كانت تنظر إليه دون أن تشبع فضولها!
أبو سعيد.. هكذا كانوا ينادونه..
كنا صغاراً.. وكان عجوزاً مسناً.. ليس بالطويل ولا بالقصير.. أسمر البشرة.. لم يتأكد أحد من أنه أعمى.. ولكنه كان يمشي مشية المكفوفين وإذا ناولناه كأساً من الشاي وضعه قريباً من عينه بينه وبين الضوء!.. له شاربان هائشان تتحرك أطرافهما الصفراء عندما يتحدث.. وشعرات بيضاء وسوداء متجعدة على ذقنه.. يعتمر شماغين داكنين مقلوبين كل واحد منهما يسخر من قذارة صاحبه! كما يلبس ثوبين من الصوف مقلوبين ويابسين من الوسخ.. ويعتمد على عصى تسود مقبضه مع الزمن..
عندما نسمع وقع عصاه مقبلاً نخرج نحوه مسرعين.. وتنفحه أمي قطعاً من الخبز وقدحاً من اللبن وشيئاً من الشاي..
كان يصر على أن يجلس في الزقاق الترابي خلف المنزل!
كما أنه لا يتردد في كل مرة أن يطلب طعاماً مبيتاً منذ البارحة!
كنا نسبره من بعيد..
يجلس القرفصاء.. ثم يضع الطعام إلى جانبه.. ثم يتحسس الأواني بيده السمراء و يقوم برفعها إلى فمه وعيناه زائغتان في الهواء..
ربما حضر في يومين متتاليين.. وربما مكثنا شهراً دون أن نراه.. ولا ندري كيف كان يقسم استضافته بين الناس! المفارقة العجيبة في أبي سعيد - وكله مفارقات - أنه مع كل ما وصفته لكم كان ثرثاراً بشكل غريب.. كما أنه يحب معرفة كل شيء في القرية!
يسألنا دائماً.. أختكم فلانة.. هل هي زوجة فلان؟
- نعم..
- هل هي في الرياض الآن؟
- نعم..
- وما هو عمل زوجها؟
ويرتشف كوب الشاي البارد بينما تتساقط قطرات منه على لحيته..
- هل تعرفون ممن أخذ ابن جاركم سليمان؟
- نعم..
ونظل هكذا.. هو يأكل ويسأل ونحن حوله ننظر إليه و نجيب..
كما كان لديه رهاب غريب من السيارات.. يحاول أن يبتعد عن أصحابها وهم يقفون إلى جانبه.. قال لنا مرة بعدما اغتبق لبناً في إناء أخرجته له أمي مع قصعة من التمر..
- قبل سنة.. في إحدى الطرق وقف حيالي شباب على سيارة.. وطلبوا مني الركوب كي يوصلوني.. ولكنني رفضت.. وحينما ألحوا علي اشترطت عليهم أن أركب في صندوق السيارة.. وأن لا يخرجوا عن الأسفلت أبداً!
- ولماذا هذا الشرط الأخير يا أبا سعيد؟
ويرفع رأسه.. وتزيغ عيناه في اللاشيء.. وعلى أطراف شاربه بقايا من اللبن ويقول بكل ثقة:
- خفت على نفسي منهم.. ثم أضاف: ربما يخطفونني!
لم نتمالك أنفسنا من الضحك وسألناه على الفور:
- وماذا يريدون منك؟
حرك رأسه في الهواء وهو يضحك ويقول:
- الله أعلم.
- من هم أهله؟ وأين هم؟
- لا نعرف.. يقولون إنه قادم من مدينة بعيدة.. وإن له إخوة أغنياء جداً..
كنا نلحف على أهلنا بالأسئلة..
- ولماذا هو قذر هكذا؟
- ................
- أين ينام؟
- كثيرون قالوا بأنه ينام وسط الأثل.. ونحن غير متأكدين من ذلك!
لحقناه مرة فيما كانت الشمس تنحدر خلف الكثبان الرملية.. كان كل شيء صامتاً في تلك المزارع المهجورة.. وهو يمشي ويتحسس بعصاه الأرض.. حتى ابتعدنا عن المنزل فعدنا وصدورنا تخفق من الخوف والتعب.. بينما دخل هو بين الأثل.. ثم اختفى بعد ذلك..
mam21699@hotmail.com