صغيري الغالي: أعلم أنك لن تقرأ ما كتبته لك.. لكن يكفيني أنك تشعر به وإن لم تعانق عيناك حروفي!
يوم الجمعة الماضي يا صغيري.. ودعتك وكأني أودع قطعة من قلبي الذي ارتحل معك دون أن يستأذنني حتى في الرحيل شعرت بالألم يعتصر روحي حتى ضقت به وضاق بي أمسكت بيديك الباردتين قبلتهما.. وكأني أحاول أن أطفئ لهيب الفراق الذي بدأت حرائقه تشتعل بداخلي ببرودة يديك الطاهرتين!
كانت درجة حرارتك المرتفعة أشبه بسياط قاسية تجلدني دونما رحمة.. وكانت عيناك الغائرتان تشعرانني بعجزي وقلة حيلتي... وأمومتي التي تنحر نحرا بفراقك كل أسبوع!
كنت مريضا ترتجف بصمت.. لأنك لم تعرف الشكوى يوما لكن أي أحمق يقول إن قلب الأم بحاجة أن يسمع آهة ألم أو توجع من طفلها ليعلم أنه متعب يكابد الألم ويصارع الوهن!
يكفيني أن أبحر في عينيك الجميلتين لأشعر بألمك الذي تتماوج مراكبه بين موانئ وجع لم تمنح أشرعته سكون الهدوء يوما!
صغيري مشعل.. حين ابتسمت بكل طهارة الطفولة وأنت تودعني.. أحسست بألف خنجر وخنجر ينغرز في قلبي.. وددت لحظتها لو كنت أملك من أمري شيئا لتركت الدنيا وما فيها ولحقت بك غير مبالية أي تداعيات ثائرة ستحدث بعد قراري المجنون هذا!
ولضممتك إلى حضني ووضعت رأسك على كتفي وهززتك بلطف وأنا أنشد لك بهدوء تلك الأنشودة التي تعشقها ولا تغفو ليلا حتى أسمعك إياها (لسوف أعود يا أمي).. أتذكر يا صغيري حين أترنم لك بها وأنا أحلم بعودتك لي.. من قضبان ذلك السجن الذي يحول بيني وبينك.. سجن التوحد وأسلاكه الشائكة التي تجعلني أقف أحيانا أمامك عاجزة يلجمني الحزن والألم.. لكن إيماني بالله يمنحني القوة والصبر وحسن الاحتساب!!
صغيري الغالي.. حين رفعت يدك الصغيرة ولوحت لي بها.. من وراء نافذة السيارة وأنت تبتعد عني.. شعرت أن إعصارا اجتاح نفسي.. ففجر براكينها الخامدة.. وأطلق حممه المشتعلة على حقولي التي كانت تنتظر الخصب وتمني النفس بسرعة انقضاء الأيام... ليحرق ما تبقى من أشجار الصبر فيها... ويقتلع أزهار التصبر غير مبالٍ بمعاناة أم تعيش الفراق كل أسبوع وتحاول أن ترمم تصدعات أمومتها بمظهر زائف من التجلد والتحمل...!!
لحظتها شعرت بملوحة الانكسار في داخلي... غرقت في صمت مهيب... حتى أطفالي الآخرين احترموا لحظة ألمي.. صمتوا.. لم يسألوني ما بك يا أمي؟؟
فقط كانوا يختلسون النظر إلى بين الحين والآخر..!!
وربما تساءلوا.. ما أطول الوقت الذي بكت فيه أمنا.. ولم ينضب دمعها!!
أتدركون ما معنى أن ينكسر قلب الأم بفراق صغيرها.. فكيف إن كان توحديا في أشد الحاجة إليها! أتدركون ما معنى أن تعيش الأم هذه المشاعر كل أسبوع.. تتمنى أن ترحل مع صغيرها ولكن ألف قيد وقيد يكبلها..!!
واقع مؤلم.. يجعلني أتحمل كل هذا العناء من أجل أن يتعلم صغيري في أكاديمية خاصة بالتوحد!
واقع يعتصر قلبي يسلب منه كل معاني البهجة والسعادة.. من أجل أن يتحقق الحلم بإدماج طفلي في المجتمع والحياة فيما بعد..!!
واقع فرض على أسرتي الصغيرة أن تتفرق.. ورضينا بهذه الضريبة الأليمة من أجل أن يتعلم مشعل لأن مشعل.. هو القنديل الذي يمنحنا الأمل والتفاؤل.. رغم ضعفه وقلة حيلته!!
قال لنا أحد مديري المدارس يوما: (اربطوا مشعل في البيت ما منه فايدة)
يومها بكيت.. حتى ما كاد يرقى لي دمع!!
ولأني آمنت بطفلي... فلم تجعلني كلمات هذا الإنسان اللامبالي أغوص في بحار اليأس.. بل إنها منحتني ووالده من التحدي والهمة العالية ما جعلنا نفعل المستحيل من أجل مشعل.. ونحمد الله الذي لم يخيب أملنا فيه.. وما زلنا نأمل بالكثير.. يحدونا حسن ظن بالكريم المتفضل لا ينقطع أبدا!! حين يقول مشعل: (ماما.. بابا) فإننا نشعر أن الكون بأكمله يتراقص على معزوفة هذه الحروف!! ما أجمل وقعها على قلوبنا وما أروعها..!!
صغيري الغالي.. أنت النعمة التي أشكر إلهي عليها ولا أوفيه حقه من الشكر وأسأل الله أن لا يحرمني منها أبدا..!
مجرد همسة.. يا من ابتلاهم الله بطفل توحدي.. أتكرهون أن تكتحل أعينكم صباحا مساء بطير من طيور الجنة يعيش بينكم.. يكفر الله به خطاياكم إن احتسبتم وصبرتم!!
صغيري مشعل.. سأحتمل وجع فراقك.. من أجل أن تتعلم أيها الغالي!!
وأسأل الكريم أن يجمعني بك ولا يفرق بيننا ما حيينا!!