(عادة... نجلس أنا ووالدي حفظه الله ورعاه وأمده بطول العمر نتجاذب أطراف الحديث بأمور شتى ومجالات عدة... بالمناسبة سوالف الوالد عادة تكون بمحورين اثنين لا ثالث لهما إلا بحالات استثنائية:
الأول: انتقادات ونصائح لا تخلو عامة من الصراخ وهي تقليدية مملة وثقيلة، لا أبالغ إن قلت إنها عقيمة بدرجة امتياز!، وعادة ما تنتهي بدعوة جميلة وهذا ما أحبه في هذا النوع من السوالف.
الثاني: هو أجمل ما في والدي أنه يناقش ويحلل في جميع المجالات بعلم وبغير علم - سمة الأب الشرقي-، يدعي معرفة الأمور.. طبعا قد يكون هناك تساؤل: كيف عرفت أنه يدعي؟
اكتشفت ذلك منذ زمن بعيد... عندما كنت صغيرة كنت أثق ثقة تامة أن والدي هو صانع المستحيل في حياتي.. كل ما أتمناه يحققه لي كأنه مارد المصباح... سواء كان الأمر مادياً أو معنوياً... وعندما كنت بالصف الأول الابتدائي سألت والدي ببراءة: (وش لون الشيطان) قال: أحمر... طبعا أخبرت زميلاتي ومعلماتي عن هذا الاكتشاف العظيم!.. معلماتي ضحكن على ما قلته وأخذن الموضوع كطفلة.. أما زميلاتي فشعرن باستياء كبير لأنهن يعشقن اللون الأحمر وهذه (الحقيقة) التي اكتشفتها جعلتهن مصدومات!!)
(2)
ما سبق كان حديثا لإحدى طالباتي في الجامعة، وقد سقت كلامها - تقريبا - كما ورد في النشاط البحثي الذي طالبتهم به... وقد كان النشاط البحثي يدور حول تحليل موقف اتصال حقيقي وتقييم درجة فعالية الاتصال في ذلك الموقف في ضوء المحددات العلمية لعملية الاتصال... هذه الطالبة تضيف في جزء آخر من ذلك التقرير بأنه دار حديث ذات مساء عن البيروقراطية مع والدها، وجعلت الطالبة تصور لنا كيف فرض رأيه عليها وهو غير متخصص في العلوم الإدارية، إلى درجة أنها قررت في نهاية المطاف أن أهداف الاتصال في ذلك الموقف قد تحققت لأبيها بنسبة 100%، أما هي فقد حققت الأهداف بنسبة لا تتجاوز 1% فقط!!
(3)
هل نحن - كمربين - بحاجة إلى أن نقول لأولادنا وبناتنا بأن (الشيطان لونه أحمر)؟ هل نحن مضطرون فعلاً لأن نظهر أمام الأولاد والبنات كملائكة أطهار أو علماء كبار أو مكتشفين أذكياء أو محللين بارعين لكل شاردة وواردة في الكون ؟ ألم ندرك بأن الأولاد والبنات باتوا يعرفون الكثير من المعلومات والحقائق عن الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأن بإمكانهم التدقيق والتأكد من صحة ما نقول بأسرع مما نتوقع وبأيسر مما نظن؟ أليست مرة واحدة نخفق فيها بالتلبس بالصدق أو الموضوعية كفيلة بأن نخسر الثقة فيما بيننا وبين أولادنا وبناتنا وربما إلى الأبد؟!
(4)
في تقرير آخر لطالبة أخرى، تشير فيه إلى أنها حين كانت في الرابعة من عمرها، قامت هي وأختها والتي كانت في السادسة من عمرها بزيارة الجيران دون أن يكون هناك دعوة رسمية، فما كان من أبيها إلا أن وضع كمية لا يستهان بها من الملح في أعينهما كإجراء تربوي، وجعلت تصور المرارة التي لحقت بهما من جراء هذا (العقاب التربوي)، ولم يكن ثمة حوار أو نصائح تربوية ملائمة من قبل الأب لبناته الصغيرات ! وطالبة ثالثة تشير إلى ظهور سلوكيات غريبة لدى بعض الطالبات الجامعيات... لقد تعلمت الكثير من التقارير (المتواضعة) لبعض طلابي وطالباتي حول بعض المفاهيم والاتجاهات والسلوكيات، ومنها ما يتعلق بالمسألة التربوية، فهل نتعلم أكثر من خلال أبحاث ودراسات منهجية يضطلع بها الباحثون والباحثات ؟!
(5)
المشاهد السابقة تؤكد على حاجتنا للتربية الأكثر ذكاء على المستوى الفردي وبشكل مكثف، وهنالك مشاهد أخرى كثيرة تبرهن على أهميتها على المستوى الجمعي أيضاً وبشكل عاجل، ولعل أبرز مثال على ذلك هو منظر أولادنا الهائمين في الشوارع، فالكثير من الناس يتركون الحبل على الغارب للأطفال والشباب لأن يتواجدوا في تلك الشوارع في أي ساعة من النهار أو الليل، دون أي متابعة أو مراقبة أو مساءلة، في الوقت الذي لا توجد فيه برامج تثقيفية أو ترفيهية ملائمة وخاصة في فترات المساء، كما لا توجد أي قوانين صارمة ولا غير صارمة تمنع الأولاد وذويهم من أن يتسكعوا في الشوارع بشكل يبعث على الشفقة، في صورة تؤكد على تجاهلنا لحقيقة أن الشوارع يمكن أن تؤهل هؤلاء الشباب ليصبحوا وبكل اقتدار عناصر فاشلة في مجتمعهم، كما يمكن أن تمنحهم فرصاً ذهبية للحصول على بطاقات عضوية مؤقتة أو دائمة في عصابات الجريمة المنظمة أو جماعات التطرف والتكفير والعنف، فضلا عن إمكانية تعرضهم للاستغلال الجنسي، وما يتبعه ذلك من احتمال تدمير البناء الديني والنفسي والأخلاقي لدى أولئك المساكين من الأطفال! ألا يؤكد كل هذا وما يشابهه على أننا نعيش أزمة تربوية حادة، نشهد آثارها في الميادين العلمية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية وبشكل يدفعنا إلى ضرورة الاعتراف بالأزمة الحادة ودفع التكاليف اللازمة في أوقاتها المحددة!
(6)
هنا يسعنا التساؤل:
إن أهمل بعض الناس أولادهم وبناتهم أليس المجتمع مسؤولا عنهم؟
إن انعدم الوعي لدى بعض الأفراد والأسر تجاه ما يجب لأولادهم وبناتهم من حقوق التربية السديدة، فهل يفقد المجتمع وعيه هو الآخر بدوره؟ لاسيما إن كنا نمتلك من الموارد المالية والبشرية ما يؤهلنا للقيام بدور فاعل في هذا المجال الخطير.
تلك التساؤلات المشروعة تقودني إلى المطالبة بأن تكون الأزمة التربوية التي نعيشها وما تتطلبه من تبني (التربية الأكثر ذكاء) ونحوها ضمن الأجندة الوطنية، بحيث تنشط المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية لمدارسة المسألة التربوية، بل إنني أرى أهمية أن يتصدى (مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني) لهذه المسألة بحيث تكون تعالج في الجولات القادمة القريبة من الحوار الوطني، علنا نفلح في وضع اللبنات الأولى للعملية التشخيصية المنهجية الجادة لواقعنا التربوي في ضوء التحديات الكبار التي نعيشها، لنخرج ب (كشف تربوي) يجلي لنا أين نقف وأين يجب أن نتجه وما هي الفجوة وكيف نردم تلك الفجوة وكم نحتاج من الموارد البشرية والمالية والمعلوماتية والتقنية؟ ويمكن أن نعهد لبعض المؤسسات العلمية والبحثية لتنجز لنا ذلك (الكشف)، بشرط أن نوجد الأنظمة والآليات اللازمة لكي لنعكس النتائج والتوصيات في أنماطنا التربوية ومناهجنا الدراسية وبرامجنا الإعلامية..
وأخيرا نعاود القول: لنفعل ما نشاء ؛ ولكن لنعلم أن: المجتمعات لا تتقدم بثرواتها المالية وإنما بثرواتها البشرية... فالبشر بذكائهم وعَرَقهم هم من يصنع التنمية، وهم من ُتصنع التنمية لهم... فهل نقتحم فضاء التنمية البشرية وندفع كافة تكاليفها - التربوية وغيرها - لكي نعيش كما يجب أن نعيش!
وأحسب أن المشهد التربوي يمكّننا من القول بأننا إن تأخرنا في دفع ريال واحد هذا اليوم لتربية أولادنا وبناتنا فإن علينا دفع عشرة ريالات بعد أسبوع واحد، وربما مئة ريال بعد شهر واحد، فكيف بالسنة والسنتين والعقد والعقدين!
أنا أثق بمركز الحوار الوطني وأثمن جهوده وحرصه في التعاطي مع المسائل الوطنية الملحة...
beraidi2@yahoo.com