قضيت عدّة أيام في قراءة الدراسة المتميزة (الظل: أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية) للدكتورة فاطمة عبد الله الوهيبي، هذه الدراسة المهمة والجديدة في بابها، مرت للأسف بهدوء، فلم أقرأ شيئاً عنها، بل إنّ من لفت نظري إليها جريدة أدبية عربية، ما جعلني أسعى للبحث عنها في المكتبات حتى وجدتها لأقضي معها وقتاً ممتعاً، ضاعف من همومي تجاه ظلي وتجاه كافة الظلال .. لكنني سأترك ظلال فاطمة الوهيبي، لناقد متخصص، وأدلف إلى العديد من الظلال الشعبية، التي لم أر المؤلفة تأتي على ذكرها، ففي الأمثال الشعبية (ظل راجل ولا ظل حيط!) تقوله المرأة الآيسة، التي فاتها قطار الزواج أو مات عنها زوجها وترك لها أولاداً وبنات، أو تلك المطلقة في وحدتها ووحشتها وطمع ذوي النفوس الضعيفة بها، هؤلاء النسوة، يرون في ظل الرجل، إذا عز الرجل حماية وحاجزاً، مثله مثل فزاعة الطيور التي تنصب في الحقول لحمايتها من هواة التدمير، إنّ ظل الرجل هنا متحرك، مقابل ظل الحائط الجامد، الذي يعكس ما خلفه، دون زيادة أو نقصان!
وعندما ترغب في من يتوسط لك عند رجل مهم، فإنك لن تعدم من يرشدك على فلان من الناس، هذا الفلان يسير مع الرجل المهم في كل وقت، إنه (مثل ظله!) وإن كان الظل دائماً لا يعكس أصله، إلاّ أنّه ملاحق للأصل، وقادر لجعله في عداد الأموات حالما يختفي، هذا الظل يعرف حركات وسكنات الرجل المهم، ولا يغيب عنه، إلاّ عندما يغيب عنه الضوء أو الهالة أو المنصب أو الأهمية، هذا الظل في الخيال الشعبي مؤثر وقادر على حل العديد من الأمور إمّا مجاناً وإما بجعل أو صلة، وسوف تجد أنّ العديد من القضايا العالقة والمهمة على مكتب الرجل المهم من الممكن أن تجد حلاً لها عند ذلك الرجل الذي يسير مع الرجل أو المسئول المهم مثل ظله!
وفي العديد من الدول هناك حكومات رديفه يطلقون عليها (حكومة الظل)، هذه الحكومة تراقب وترصد، لكنها لا تتحرك للقضاء على الأصل إلاّ عندما تتفاقم الأخطاء والتجاوزات - من وجهة نظرها - حين ذلك قد يتحول الظل إلى أصل له ظل، وقد تتحول الحكومة إلى حكومة أخرى تأتي بظلها مثلها مثل الحكومة السابقة، حكومة ترى كافة الحركات والسكنات لكن لا صوت لها!
ويطلق على بعض العلماء، بعض العبارات، حين يرد ذكرهم، مثل (قدس سره) أو (دام ظله) ولا أدري كيف يدوم ظل الإنسان، إنّ دوام الظل لله وحده، فهو الدائم والحي الذي لا يموت، ومثل هذه العبارة، العبارة الأولى، التي تقودنا إلى التساؤل عن تقديس السر، ما هو السر الذي يحمله ذلك العالم؟ حتى ظلال الحيطان تزول بزوال الحيطان فكيف بظلال البشر؟
وطالما بدأت بكتاب (الظل) فسوف أختم بظلي، فقد أخذت أراقبه، أمشي خطوة ثم ألتفت، أقف أمام المرآة، أراقب الظل، الحركات السكنات، وكان معي طفلة صغيرة، وقفنا معاً أمام المرآة، هي تتحرك وتضحك، تحيي الظل تضربه بيدها وأنا أراقبه، أراقب الظل، واجماً، وحزيناً، فقد بدأت علاقتي معه متأخرة، متأخرة جداً، أصبح ظلاً هرماً، ثقيل الخطوة، بطيء الالتفات، والملامح، حتى راودني خاطر بأنّ هذا الظل إلى ضحا ... لماذا لم ألتفت لظلي إلاّ الآن، مع هذا الكتاب الذي اشتريته، سهرت معه، قلّبته وأعدت بعض فقراته، همشت عليها، لعلني أعود إليها أو ألفت نظر الأصدقاء إليها، لكنني حالما وقفت أمام المرآة، ومشيت في الضوء، ضاع كل ما في الكتاب، ولم يبق معي إلاّ أنا وظلي، كلانا متحركان، بجانبي الجدار المواجه، واقف وظله بجانبه، هادئ ومستكين وأبدي، ظلي أنا وظلال الناس إلى حركة وسكون ثم إلى ضحا ... راقبوا الظل جيداً وسوف تجدون العجب العجاب .. سبحان الله لا ظل يدوم إلاّ ظله.
فاكس 012054127