الرياض - (الجزيرة)
الترابط الأسري ضرورة شرعية، ووطنية للحفاظ على تماسك المجتمع، وأمنه الاجتماعي وللتصدي للمتغيرات الحديثة التي طرأت في أوساط المجتمعات الإسلامية تلك التي تستهدف وحدة الأسرة المسلمة وتماسكها، وتكاتف أبنائها، خاصة وأن الإسلام قد وضع منظومة متكاملة للبناء الصحيح لأسرة قوية متعاونة للخير.
فكيف يمكن تحقيق الترابط الأسري في ظل التيارات التي تكاد تعصف بالأسرة؟ وما الأولويات لإعادة الاعتبار للأسرة المسلمة في ظل النزعات الفردية، والتكالب على الحياة؟ وما العمل المطلوب للحفاظ على الأمن الاجتماعي للمجتمع؟
التماسك الأسري
يتساءل بداية الدكتور إبراهيم بن مبارك الجوير - أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ما المقصود بالتماسك الأسري؟ هل نحن بحاجة إلى رجل أمن داخل المنزل؟ هل نحن بحاجة إلى امرأة تعمل في الأمن داخل المنزل؟ هل نحن بحاجة إلى وضع لافتات نكتب عليها منطقة خطرة، ممنوع الاقتراب؟ هل نحن بحاجة إلى كميرات مراقبة؟ هل نحن بحاجة إلى تعليمات وإرشادات؟ هل نحن بحاجة إلى من يستخدم عقله؟ هل نحن بحاجة إلى بيت جديد؟ هل نحن بحاجة إلى قرض مالي جديد؟ هل نحن بحاجة إلى سيارة جديدة؟ هل نحن بحاجة إلى سائق وخادمة؟ هل نحن بحاجة إلى تغير الأثاث؟ هل فكرنا كيف نحافظ على أسرتنا؟
دعونا أولاً نتفق على مفهوم الأسرة.. الأسرة كما تفهمونها تلك التي تتكون من ذكر وأنثى يرتبطان بعضهما برباط الزواج الذي هو عقد وميثاق غليظ وأطفالهما وأقاربهما عن طريق الدم أو المصاهرة.
هذا المفهوم بدأ يتغير من خلال بعض منظمات المجتمع المدني، والمؤتمرات الدولية التي عقدت في عدة دول، وأخذت بمفهوم الأسرة التي تقوم على علاقة بين شخصين بغض النظر عن جنسهما تقوم بينهما رابطة الزواج ويكونون أسرة، هذا المفهوم يجعل من التساؤل هل ستبقى الأسرة أم ستزول؟ أو هل ستظل الأسرة تملك مقومات قوتها عبر الزمن أو تضعضع، ومن عوامل ضعضعت الأسرة العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (ما فشا الزنا في قوم إلا فشا فيهم الموت) تأثير الإعلام الذي يوجه للأسرة من برامج وأفلام ومسلسلات تهدم ولا تبني هل ستهد من كيان الاسرة أم ستبقى متماسكة رغم كل الهجمات؟
ثم ما المقصود بالتماسك الأسري الذي نتحدث عنه هنا؟
- الأمن الفكري والعقدي: تحصن الأسرة ضد الأفكار الدخيلة والسيئة، تحصين الأسرة ضد الغلو والتطرف الذي يقود لأسوأ العواقب، وذلك ببناء شخصية كل فرد في الأسرة بناء صحيحاً يقوم على الفكر والحرية والحوار والقناعة الذاتية، وصحة التنشئة.
- الأمن الاقتصادي: استثمار قدرات كل فرد في الأسرة في إيجاد فرص الكسب، ومنه مفهوم المرأة العاملة والمرأة المنتجة، فالمرأة المنتجة والعاملة بالمفهوم الغربي: (المرأة التي تعمل خارج المنزل بأجر) أما المفهوم الذي يتمشى مع ثقافتنا فإن المرأة عاملة منتجة سواء عملت خارج المنزل أو داخل المنزل، ولاتعتبر المرأة التي تعمل داخل المنزل عاطلة غير منتجة، وهذا المفهوم يحقق الأمن للمرأة التي تضغط عليها وسائل الإعلام بمفاهيم غريبة عن ثقافتها.
- الأمن الصحي: تنمية الثقافة الصحية لدى أفراد الأسرة، ثقافة التغذية، أضرار التدخين، والمخدرات.
- الأمن البيئي: ومنه الحفاظ على المكتسبات الوطنية وتنمية الحس، والذوق العام وتربية السلوك الذي يحترم الناس ويراعي مشاعرهم ولا يشجع على أنا ومن بعدي الطوفان.
- الأمن الأسري: تقوية العلاقة بين أفراد الأسرة والإسهام في تحقيق الاستقرار الأسري والتأكيد على نعمة وجود الأسرة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
- ومن أهم عناصر التقوية جناحا المودة والرحمة، المصارحة، الحديث مع بعض، العناية بالعلاقة الجنسية والصلة والتواصل والهدية والكلمة الطيبة والشكر والثناء والإشادة وغيرها من العوامل
- الأمن النفسي: ومن أهمها استشعار الحفاظ على الضرورات الخمس: الدين والعقل النفس المال والعرض.
إذا ما الخوف؟ الخوف فزع القلب من مكروه يناله أو محبوب يفوته، وضده الأمن وهو عدم توقع المكروه في الزمن الآتي، الأمن للفرد والمجتمع والدولة من أهم ما تقوم عليه الحياة، إذ به يطمئن الناس على دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، والشعور بالأمن في الأسرة خاصة أمر حتمي حتى يتربى النشء في جو سعيد ملؤه الثقة والاطمئنان، والعطف والمودة بعيدا عن القلق والعقد والأمراض التي تضعف شخصية الجيل.
عماد البيت
ويرى د. عبدالرزاق بن حمود الزهراني - أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإمام ورئيس الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، أن هناك اجماعا عالميا وتاريخيا على ان الأسرة تمثل أهم وحدات المجتمع ومؤسساته، ففيها يفتح الطفل عينيه على الحياة، والأسرة هي التي تخط الحروف الأولى في دفتر حياته، والدراسات تشير الى ان شخصية الفرد تتشكل خلال السنوات الأولى من حياته، وقد أولت الأديان السماوية الاسرة اهتماما كبيرا وفي الإسلام تشريعات أدبيات وتعليمات كثيرة حول الأسرة وصلة الأرحام، وحقوق الوالدين وحقوق الطفل، وكانت الأسرة ومازالت في معظم المجتمعات تقوم بدور فاعل في حياة أفرادها، فبالإضافة الى دورها البيولوجي، تقوم الأسرة بدور بنائي، ودور وقائي، ودور علاجي لأفرادها، فهي مكان السكينة والمودة والرحمة، ومكان امتصاص توترات الحياة وضغوطها، ومع التغيرات المعاصرة، ومحاولة خلط الأوراق بالنسبة لدور كل من الرجل والمرأة تعرضت الأسرة لهزات عنيفة، وخاصة في الدول التي تتبع او تحاول ان تتبع النموذج الغربي في الحياة، حيث ترتكز الحياة على الفردية وعلى الصراع من أجل المادة، وعلى الصراع بين الرجال والنساء، حتى نفر كل جنس من الآخر، ولجأ إلى جنسه لإشباع احتياجاتهن فتزايدت أعداد الشاذين جنسياً، وأعداد السحاقيات، وفي كل ذلك تدمير للأسرة ولوظائفها الحيوية، فضلا عن تدمير الأخلاق والقيم والإزراء بآدمية الإنسان، وفي مجتمعنا نحمد الله ان لدينا إطارا مرجعيا نستلهمه ونهتدي به في مجاهل الحياة وظلماتها، ولدينا نموذج مثالي نقتدي به يمثله نظريا القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويمثله عمليا ما طبقه الرسول وخلفاؤه في الخمسين سنة الأولى في صدر الإسلام، ويمكن تحقيق الترابط الأسري من خلال تطبيق التعاليم والقيم الاسلامية الرفيعة التي تقدس صلة الرحم، وبر الوالدين وتجعل كل راع مسؤولا عن رعيته وتعتبر المرأة أهم عنصر في مجال الترابط الاسري، فهي عماد البيت وركنه الأساس يليها في ذلك الزوج بما ألزمه الله من مسؤوليات، وخاصة خارج البيت، ثم إن مؤسسات التنشيئة الاجتماعية يجب ان تتعاون وتتضافر جهودها في تحقيق الترابط الاسري والعمل على تقوية دور الاسرة الاجتماعي وتتمثل تلك المؤسسات في المسجد والمدرسة والإعلام والمجتمع المحلي فإذا تم بناء استراتيجية أسرية عليا وعملت كل مؤسسة على تنفيذ ما يخصها منها، فإن الاسرة سوف تحافظ على ترابطها وسوف يعود لها دورها البناء في الحياة الاجتماعية وستكون واحة من واحات السلام والأمن، والتنشئة الصالحة والحياة المستقرة الهانئة.
الترابط الأسري
وتقول د. نجمة بنت أحمد المالكي - عميدة كلية التربية للأقسام الادبية بجامعة الطائف: لقد أقام الإسلام نظام الاسرة على أسس سليمة تتفق والطبيعة البشرية من حيث اشباع حاجتها للسكن وللتواد والألفة المحبة، حيث أقامها على أسس من الوعي فهي تعد النواة الأولى للمجتمع فإذا صلحت تلك النواة صلح المجتمع بأكمله.
ولا يخفى علينا ان ما تقوم عليه الاسرة من تآلف وتحاب وتعاون وتراحم واحترام متبادل كلها كفيلة بأن تحقق الترابط الأسري الذي يجعلها قادرة على مجابهة كل التيارات المنحرفة التي تحاول النيل منها، ولإعادة الاعتبار للأسرة المسلمة لابد وأن يسودها العطف والحب، فالحب والرحمة من أهم الأولويات التي ينبغي ان تأخذها الاسرة المسلمة في اعتبارها كما ان على الصغار احترام الكبير وتوقره قال- صلى الله عليه وسلم- (ليس منا من لا يعرف حق كبيرنا ويرحم صغيرنا) حيث إن الأب يمثل النقطة المركزية في الاسرة بما يحمله من تجارب وخبرات، لذا دعا الله عز وجل الأبناء الى ان يقيموا علاقاتهم بوالديهم على أساس من العطف والحنان والإحسان، قال تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}.
وهكذا فإن ديننا الحنيف يقيم الاسرة على أسس وطيدة ويضع لها قوانين ومناهج سليمة تضمن لها السعادة والسلامة من المخاطر المحيطة بها، وللحفاظ على الأمن الاجتماعي للمجتمع فلابد لنا ان نمتثل لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} فتمسكنا بديننا يحفظ أمننا وأماننا ويحقق لنا كل ما نطمح إليه.
والأمن الاجتماعي ليس من مسؤولية الأسرة وحدها وإنما تشارك فيه الحكومة والمؤسسات المختلفة كالمدرسة، والمسجد، والإعلام.. إلخ، وجمعيها تمثل جزءا من كل ولا يمكن أن تعمل واحدة من تلك المؤسسات دون الأخرى فلكل منها تأثيره فلابد لنا حتى نحقق الامن الاجتماعي ان نعتني بها حتى يتسنى لنا بذلك المحافظة عليه حيث يمثل نعمة من نعم الله قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.
حلقة الإعلام
وتؤكد د. أسماء الحسين - أستاذ علم النفس المساعد بكلية التربية للبنات بالرياض، والمستشارة النفسية والتربوية.. ان أولى مقومات الترابط الاسري الصحيح، ولا سيما في ظل الانفتاح الهائل، والتغيرات والتطورات المتلاحقة في مختلف الجوانب الإنسانية، والإنسانية المادية هو غرس الإيمان في نفوس الأبناء، والعمل على تقوية الناحية الدينية من خشوع وولاء لله تعالى، وخوف من عقابه، لديهم من خلال القدوة الصالحة والحكمة بالتي هي أحسن وانتهاج العلم الشرعي الصحيح والمحافظة على المبادئ المستمدة من الشرع، وتعويد الأبناء الحياء الذي هو من الإيمان، ومن الاحترام، وإعطاء كل ذي حق حقه، والتعاطف والتكاتف بين أفراد الأسرة الواحدة.
كذلك من خلال اشباع حاجات الأبناء النفسية، ومن أهمها الحب والتقدير والتعبير عن الحاجات وإعطاؤهم الثقة التي في موضعها مع متابعتهم، والحرص عليهم والسؤال عنهم وعن أحوالهم، ومستوياتهم الدراسية منذ الصغر، وعدم التخلي عن ذلك لاحقا واستخدام الوسطية في رعايتهم فلا إفراط ولا تفريط، كذلك من خلال تحميلهم مسؤولية الأسرة وشؤونها مبكرا، والمساعدة في حل مشكلاتها وعدم إقصائهم عنها او توفير البديل الخارجي في الاهتمام بشؤون الاسرة او الاعتماد عليه بصورة كبيرة وأولية (كالخدم والسائقين وغيرهم)، مع مراعاة العدل، ووجود مبدأ ونظام واضح للأسرة، وأن تعمل الأسرة على تشجيع أبنائها على الالتحاق بالأعمال المفيدة، سواء التي تعود عليهم بالفائدة الشخصية، أو الأعمال المفيدة مجتمعياً كالتطوع في العمل الخيري المعترف به، والواضح الأهداف.
ولابد في ظل التيارات المتناقضة والمتدفقة، والتي قد تفقد الأسرة توازنها إذا لم تتكاتف وتتعاون والمجتمع في التصدي لها، من تفعيل دور المسجد في التربية السليمة، وكذلك تفعيل دور الأحياء بدءاً بتوفير قطاع متكامل الخدمات، ويضع في حسبانه شريحة الشباب بما يوفره لهم من خدمات ضرورية في امتصاص الطاقات السلبية بصورة مقبولة اجتماعياً كالرياضة، وكذلك الطاقات الفكرية كالأمور الثقافية وغيرها، وينمي لديهم الطاقات الاجتماعية، مع الأخذ بالاعتبار عملية المساعدة في حل المشكلات الشبابية مع الأسرة.
ولاشك يمثل الإعلام حلقة مكملة وهامة في الترابط الأسري، والأمان المجتمعي، بما يبثه من برامج توعوية وعلاجية مختلفة ومتنوعة، يقوم عليها ناس متخصصون أكفاء ذوو دراية بالعلم الشرعي، والعلوم الإنسانية، ويجهدون في محاربة المنكر، كذلك مضاعفة المراكز والقطاعات المجتمعية الأسرية، أو ذات الخدمات الأسرية، طاقاتها لخدمة الأسرة، وعمل الدراسات العلمية المستمرة فيما يخدم هذا القطاع وفق منهج نمائي تحسيني ووقائي وعلاجي، سواء أكانت حكومية أم أهلية أو تطوعية خيرية، والاستفادة من خبرات بعض الدول الإسلامية في ذلك وفق ضوابط شرعية أساسية.