من أيسر التعامل ذلك المتعلق بالآلة، فيمكن لأحدنا أن يديرها بمجرد الضغط على زر أمامه، أو تحريك أحد الأذرعة لديها، فتعطيه ما خطط لها سلفاً أن تعطيه بعطائها المادي، دون أن يتبع ذلك العطاء منة أو معروفاً يستوجب رده حين تتاح فرصة مناسبة، وكل ما تحتاجه هذه الآلة خلال عمرها المديد، مصدر طاقة لتحريكها, وصيانة دورية لإصلاح ما قد يطرأ عليها. وهكذا يتم تبادل المنفعة بين الإنسان والآلة، فيسعد الإنسان بذلك العطاء، بينما تبقى الآلة في عطاء مستمر دون شقاء أو سعادة وإنما انتظاراً لوفاة أبدية بعد عمر مديد، أو ظهور بديل يدفع إلى الاستغناء عنها.
ومن أصعب التعامل ذلك المتعلق بالنفس البشرية، فهي لا تعطي بمجرد ضغط على زر، أو تحريك ذراع، بل تتعداه إلى دراسة عميقة لنفس المتلقي ومراعاة لمشاعره، حتى يمكن انتزاع عطائه من خلال تلك المداراة التي تجعل المرء كأنما يسير على شوك. ومع هذا فإن العطاء قد لا يكون بالمواصفات المطلوبة أو الوقت المحدد أو كليهما.
من الناس من يمكنك استدراجه للإنتاج من خلال المديح والثناء، ومنهم من يستدعي التعامل معه شيء من الضغط، وتوجيه الأوامر المحددة مباشرة، ومنهم من يتطلب التعامل معه تحديد المهمة فيقوم بها دون زيادة أو نقصان، ولا يستطيع تجاوز ما حدد له إلى الاجتهاد فيما سواه عندما يكون الاجتهاد ضرورة، وهناك من يخشى العواقب ويخاف الخطأ فينصرف عن الدخول فيما يستوجب المسؤولية تلافياً للملامة فيما لو أخطأ دون قصد. ومنهم من يكون سلوكه وطبيعته مدعاة لليأس من مشاركته في العملية الإنتاجية، فيكون التخلص منه خيراً من بقائه، أو تجاوزه ونسيانه أفضل من مداراته. وهذه العينة من البشر ليست بالقليلة، وهذه عالة على الإنتاج ومضرة به، لكنها موجودة وعلى المرء التعامل مع الواقع بما يحمله من حقائق.
وفوق ذلك كله، كيفية التوفيق مع متطلبات العمل والمصالح الشخصية التي لا يمكن إغفالها، ومنها طلب الترقي دون مسوغات، والحرص على بناء علاقات اجتماعية على حساب العمل، والاستمتاع بالإجازات من خلال إيجاد عمل خارج المدينة أو البلدة، وغيرها كثير.
والنفس البشرية تستدعي معاملة خاصة أيضاً فيما يتعلق بالعلاوات الشخصية خارج نطاق العمل، وأذكر أحد معارفي كان له صديق عزيز عليه قريب إلى قلبه محب له ولأسرته، وفجأة أخذ ذلك الصديق يبحث عن وسيلة وسبب للومه ومن ثم الصد عنه، فحاول صاحبنا جاهداً التوسل إليه بكل ما أوتي من حكمة وحلم وطول بال، رافقه في ذلك المحبة والإخلاص، لكن محاولاته باءت بالفشل، وعاود الكرة مرات عديدة فما نال مبتغاه، فآثر الصمت والهدوء، مكتفياً بأن صدق المحبة باقية، وداعياً الله أن يجعل حسن الظن طريق الصادقين المخلصين في محبتهم.
ذكرتني قصة صاحبنا هذا ببعض من القصص التي أوردها علي ابن حزم من كتابه طوق الحمامة مبيناً بعضا من قصص المحبين، ودراسة أعماق مشاعرهم، رغم البون بين النظرتين، فصاحبنا محبته محبة احترام وتقدير، أما ما أورده ابن حزم فهو حب غرام عفيف. لكن النفس البشرية واحدة والتعامل معها يتطلب كثيراً من الصبر والحكمة والتجاوز.
تقلبات النفس البشرية عجيبة، وأسباب التقلب هذا قد تكون مبررة بسبب خطأ مقصود أو غير مقصود، أو قد تكون غير ذلك لسبب خفي لا يعلمه إلا المقدم عليه.
لم يكن ابن حزم إلا مصيباً عندما كتب كتابه آنف الذكر، ولم يكن إلا محقاً عندما حلل ما أورد من قصص تحليلاً دقيقاً في زمن كانت المصادر غير متوفرة توفرها في زمننا هذا. ومع كل ما أورده ابن حزم عن هذا الموضوع فقد كان مغالياً في حبه لبني أمية، فصرفه ذلك عن بعض قول الحق - كما أرى - فيما يطرحه من أفكار سياسية، كما أن حبه لبني أمية أيضاً عائد إلى حرصه على الانتساب لفارس في الأصل، ولبني أمية بالولاء، ليبعد عن نفسه كونه من المولدين. ولهذا اختلط الحب بالغاية والغرض، وكان تشيعه لمذهب الشافعية، ومن بعد ذلك للظاهرية سبباً في شن حملته الفقهية على المالكية، لا سيما مبدأ القياس، وهكذا اختلط كل شيء بسبب الحب.