قال لي: أنا حريص على قراءة ما تكتب في هذه الزاوية لأنني أرى في كتباتك حرصاً على سلامة اللغة العربية الفصحى في العبارة والأسلوب، وتبقى الأفكار والمعاني والقضايا التي تطرحها قابلة للموافقة والمخالفة مني، ولكنني أراك لا تعتني كثيراً بمدح المشروعات الاقتصادية والصناعية وغيرها من المشروعات الكبرى التي تقام في بلادنا الغالية.
قلت له: قراءتك لما أكتب تسعدني، وإشارتك إلى اهتمامك باللغة العربية الفصحى تجعلني أقدّرك تقديراً خاصاً، وأما الاختلاف في الرأي فإن صدري يتّسع له، لأن الاختلاف من طبيعة البشر فيما يتداولون من الأفكار والآراء، وهو من أسباب إثراء ساحة العلم والفكر والثقافة، ومن وسائل بيان الخطأ والصواب.
أما (مدح المشروعات) على حدّ تعبيرك، فإن لهذه الزاوية نصيب منه قليل، لأن المشروعات عمل معلوم مشهور، ولأنها تحظى بمتابعات إعلامية واسعة النطاق تلفازاً وإذاعة وصحافة، فلكل مشروع منها لسان ناطق لا يتوقف عن الحديث، ولو شغلت قلمي بذلك لأصبحت هذه الزاوية زاوية (المشروعات) لكثرتها وتنوّعها في بلادنا - والحمد لله -.
إن للقلم يا صاحبي رسالة دينية علمية فكرية ثقافية، تجعل الإمساك به، والركض بريشته على الورق مسؤوية، وأيَّة مسؤولية.
حينما يرى الكاتب مشروعاً تجارياً ضخماً، قائماً في موقعه معلماً من معالم البلد صُرفت عليه مئات الملايين ليقف بهذه الضخامة التي ينبهر بها الناظرون، وبرونقها وجمالها وفنها المعامري يُعجبون، فإن دور قلمه هنا ليس الإشادة بالفن المعماري الحديث الذي تراه العين، وإنما هو دور تناول الأثر الاجتماعي والاقتصادي الذي أحدثه هذا المشروع التجاري أو ذاك، فالقلم وسيلة توجيه وإصلاح، وإشادةٍ بجوانب الخير التي تصلح بها أحوال الناس، وتستقر بها قيمهم، وتزكو بها أخلاقهم.
في بلادنا - ولله الحمد - من التطوُّر الجميل في المشروعات المختلفة عمارة، وصناعة، ومواصلات، وتجارة ما أصبح علامة بارزةً من علامات استقرارها، وأمنها، وهناك منافذ إعلامية متخصصة في الاقتصاد والتجارة، وخطط التطوير المتعددة تعتني بالتفاصيل المتعلقة بهذه المشروعات الضخمة، فليس من مسؤولية الكاتب أن يخصص قلمه لمدح تلك المشروعات، أو الحديث عن تفاصيلها وقصص التخطيط لها وإنشائها خاصة وأن الدعاية والإعلان تقوم بدورها المعروف في هذه المجالات، وتستخدم من أساليب المبالغة التي تكون مجاوزة للحد أحياناً في المدح والإشادة ما لا مجال للزيادة عليه.
وإننا بقدر إعجابنا بآلاف المشروعات الضخمة في بلادنا، نشعر بأهمية الضوابط التي تجعلها في خدمة قيم المجتمع وأخلاقه، وأمنه واستقراره لا وسيلة من وسائل ضرب تلك القيم والأخلاق والأمن والاستقرار في الصميم.
لقد كتبت في هذه الزاوية قبل أشهر تنبيهاً إلى وجود أنواع من البائعين في كثير من المحلات التجارية الحديثة لا تمت أشكالهم وملابسهم إلى الرجولة والرزانة بصلة، مع أنهم يتعاملون مع آلاف النساء المسلمات المرتادات لهذه المحلات، وهذا واجب من واجبات الأقلام التي علَّمنا الله سبحانه وتعالى طريقة الكتابة بها، وأنعم بها علينا.
قال لي ضاحكاً: على رسلك، فقد أخرجتني من باب غير الذي دخلت فيه.
قلت له: اختلاف الرأي لا يُفسد للودِّ قضية - كما يقولون -.
إشارة:
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.