ترجّل الأمين من القمم قمة العلم، وقمة الأخلاق والتواضع، وقمة الإيثار والعدل والتعاطف الإنساني مع من يعرف ومن لا يعرف، وقمة المناصب، وقمة الإيمان بالقضاء والقدر. وكما اختاره صاحب القرار بالدنيا الفانية لعدّة مناصب قيادية، ثم عضواً بمجلس الشورى لاثني عشرة سنة، ثم اصطفاه من بين (150) عضواً ليكون أميناً عاماً لمجلس الشورى منذ أربع سنوات تقريباًحتى انتقل إلى رحمة الله وإلى جوار ربه أنعم به نزلاً وجواراً. |
أتمنى على الله ملك الملوك، وصاحب الأمر في الدنيا والآخرة وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يكرم نزله ويصطفيه مع الأخيار، ويرفع درجاته في الآخرة، وأن يجمعه بمن يحب ومن أحبّه من الأولين والآخرين في عليين، وأنا منهم، وأشهد الله وملائكته والناس أنني أحبه في الله. |
لقد سبقني أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة وأصدقاؤه ومحبوه في رثائه، وأحاول بجهد المقل مشاركتي بتسجيل بعض الجوانب الإنسانية لفقيدنا وفقيد الوطن الراحل - رحمه الله رحمة واسعة -. قبل 31 سنة دخلت عليه بمكتبه كوكيل للشئون البلدية والقروية دون موعد ولا استئذان، وهو لا يعرفني البتّة .. قلت له بعد السلام اضطهدني رئيسي دكتور طويل مجازاً قصير فكراً وإنسانية وقطع بعثتي للماجستير واستقلت، وعملت مديراً إدارياً بشركة فرنسية متعاقدة مع وزارتكم لتخطيط الرياض، واختلفت مع ممثل وزارتكم وضابط الاتصال، وسعى لإصدار قرار بتخفيض مستوى وظيفتي ومسمّاها وبنصف الراتب الأصلي .. رفع معاليه السماعة وانتصر لي، ونصر ممثل الوزارة لدى الشركة بمنعه عن الظلم والتعسف، لأنّ نظام العمل لا يجيز تصرفه!؟ |
ثم قال لي راجعني بعد يومين .. بعدما عدت وقف مرحباً مصافحاً مبتسماً وقال مبروك بإمكانك العودة لوظيفتك الأصلية بموجب العقد، لكنني أعرض عليك ما هو أفضل من راتب الشركة وما هو أفضل من راتب الماجستير .. زكيتك ورشحتك للعمل مساعداً لمدير عام أعمال الأمير طلال بن عبد العزيز د. فيصل عناني، وسمو الأمير والمدير العام مهتمان بسعودة الإدارة والخيار لك؟! وقبلت على الفور خياره. |
علمت بسفره للعلاج بأمريكا .. حصلت على تلفون إقامته من ابن عمه (أبو بشار) وبدأت أتصل به كل أسبوعين، ومعظم الأوقات أترك له رسالة صوتية على غرفته أو رسالة شفوية (بالرسبشن)، وفي أحد الاتصالات قال - رحمه الله - لا داعي لكثرة الاتصالات لأنّها مكلفة وأنا بخير يكفيني الدعاء من المحبين مثلك، فهي البسلم الشافي إن شاء الله .. قلت له لا يغلى عليك شيء يا أبا هشام، وأنا مدين لك بمليون أو 11160 دعاء بظهر الغيب، إنْ كان الأمر تبرعاً بالدم أو بكلية أو بجزء من الكبد والله لأكون أول المتبرعين فشكرني .. لكنني أتمنى أن تشفى عاجلاً وأظل مديناً لك، وقال ما هذه الفلسفة، قلت أفسرها بعد عودتك إن شاء الله بالسلامة، وفور قراءتي لقصيدة الشيخ صالح الحمد المالك علمت بعودته .. حاولت زيارته في الأسبوع الأول إلاّ أنّ الزيارة محجوبة تواصلت معه تلفونياً حتى أذن لي بالزيارة. |
في زيارتي الأولى رحب وهلّى ببشاشته كالعادة، وفي زيارتي الثانية كان يقدمني بأدبه الجم لكبار زواره وعلى رأسهم معالي د. عبد الرحمن الجعفري بابني الشيخ صالح والتفت عليّ وسألني أين أعمل وتجاهلت السؤال؟ |
في زيارتي الثالثة يقدمني لضيوفه وفي مقدمتهم معالي د. محمد الرشيد بأنني الأستاذ صالح، وفي زيارتي الرابعة يقدمني - رحمه الله - لمجموعة كبيرة من أقاربه وأصدقائه بالصديق المحب، وأثناء الأحاديث سأل أحد زواره وكان يرافقه ابنه وقال الأب إنه بكلية الزراعة ورغبته كلية إدارة الأعمال وعلى الفور طلب صالح المالك من أحد أقاربه يدق على مسئول خارج المملكة وقال الأخير يجيب المعدل التراكمي لهذا الفصل ونحقق رغبتك ورغبته إن شاء الله. |
وفي زيارتي الخامسة يقدمني لمعالي د. الغامدي رئيس جامعة الأمير نايف بالأخ صالح، وفي زيارتي السادسة يقدمني لمعالي د. السويلم وإخوانه بالأستاذ صالح وأنا لا أستحق منه هذا التكريم والألقاب لكنها العين الكليلة عن كل عيب وأدبه الراقي وفن التعامل المثالي والإنساني مهما دنت درجة أو مرتبة الشخص أو علت عنده - رحمه الله -. |
وفي زيارتي الأخيرة الخميس 17-5-29هـ كنت أول الزائرين وكان لوحده مرتاحاً رد على مكالمتين على الهاتف ثم قال لماذا لم ترد عليّ منذ شهر وين العمل؟ وش تشوي؟ قلت له المصري يقول ميت آعد وأنا أقول ميت واقف .. تبسّم وقال نكتة والا لغز، قلت له أستأذن لقد استغرقت أكثر من وقت الزيارة المحددة على الباب، وقال - رحمة الله - (ما اسمح لك تطلع إلا بعد أن تفسر ألغازك ويجي زوار آخرين) .. فهمت قصده وقلت أبا هشام الـ 11160 هي عدد الأيام منذ قابلتك لأول مرة قبل 31 عاماً، أما المليون فهي رواتبي التي قبضتها خلال خمس سنوات والفضل بعد الله يعود لك لاختيارك الوظيفة وثقتك بي والمليون أصبح ملايين وذهب بها تسونامي وزلزال سوق المال السعودي، وأحمد الله آناء الليل وأطراف النهار. |
صمت وتغيّرت ملامحه ورفع يديه وتمتم دقيقتين تقريباً والتفت، وقال دعيت لك يا صالح ودعاء المريض مستجاب إن شاء الله، ثم أردف ما يصير أنت مكانك ... ... وسأزكيك عند معالي ... ... لأنه جزاه الله خيراً يزورني من وقت لآخر. ودّعته شاكراً داعياً له ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، يعلم الله أنّ ما قلته عين الحقيقة فهو بدار الحق حتى لا يعتبر نفاقاً أو مصلحة ذاتية؟! أقول أو أسجل هذه الحقائق والمواقف كشاهد على بعض جوانب شخصية رجل عظيم .. رحمك الله يا معالي الأمين .. الصالح والقدوة الحسنة وقليل من الرجال من يفعل ما فعلت، جعلها الله في ميزان أعمالك وأصلح ذريتك وأكثر أمثالك وكم نحن بحاجة لعشرات بل مئات صالح في عصر قلّت فيه المروءة والأمانة والإنسانية .. |
ما أكثر الأصحاب حين تعدّهم |
لكنهم في النائبات قليل |
أيُّها الحبيب الغائب الحاضر بأذهاننا وذاكرتنا إنني شبه متأكد أنّ الآلاف الذين زاروك وأنت على السرير، وصلّوا عليك، ورافقوك لمثواك الأخير، والذين حضروا لتقديم العزاء ثلاثة أيام بلياليها وسبّبوا اختناقات مرورية أمام قصر عضدك معالي الدكتور أحمد لسان حالهم وأنا أولهم نزكيك ونهمس ونتمنى من المسئولين ترشيحك لجائزة الدولة التي أحدثت أخيراً وأنت أحد مستحقيها بجدارة على ما قدمت للوطن والأُمّة، والقيادة العليا وأصحاب القرار فهم خير من يقدِّر الرجال المخلصين، والموت رسالة ربانية للناس وكل نفس ذائقة الموت والمناصب والأشخاص زائلون، وكفى بالموت واعظاً لذوي |
|