لم يأت الإسلام ليختلف مع القيم الإنسانية أو الحق أو بحث الإنسان عن السعادة، بل جاء ليتممها ويمنحها بعدها الحضاري، فالدين سمة من سمات الوعي وتطور الإدراك الإنساني الذي بنت عليه كثير من الحضارات السابقة. لولا الدين لما تحقق للإنسان هذه النهضة الأخلاقية التي باعدت بينه وبين بدائيته ووضعت الدستور الأول لحركة الحياة في اتجاه حركة التاريخ، ولكن مهما بلغ الإنسان من وعي ورقي في سلم الحضارة فإن التغير يبلي هذا الوعي ويلحق به الضرر مما يدفع البشرية إلى التوقف والتأمل وإعادة النظر. دون هذه الوقفات التاريخية الإصلاحية لا يمكن أن تستمر الرسالات العظيمة بزخمها. إن دعوة خادم الحرمين الشريفين لحوار الحضارات هي وقفة تاريخية من هذه الوقفات التي تحتاجها الإنسانية لمراجعة الأخطاء وبناء التوجهات الجديدة وإعادة الزخم للقوة الأخلاقية مرة أخرى لتقود البشرية كما قادتها من قبل.
بعد الحادي عشر من سبتمبر تحول الإسلام من كونه أكثر الأديان تمدداً وانتشاراً بين البشر إلى دين متهم في أعز مبادئه. تلك لم تكن المرة الأولى التي يواجه فيها المسلمون محناً ولكنها المرة الأولى التي يواجه فيها المسلمون حشداً عالمياً مبرمجاً للنيل من دينهم. ساعد على ذلك بعض الجهلة والمتطرفون من أبناء الإسلام نفسه فكانوا الدليل المادي الذي ينتقل من جزء من هذا الكون إلى الجزء الآخر ليقدموا الصورة السلبية التي يبحث عنها المتطرفون في الجهة الأخرى فحققت قوى الشر (من الطرفين) بعض الانتصارات الجانبية التي أخلّت بالبيت الإسلامي الكبير وأساءت إلى تاريخ تعايشه مع الآخر. غابت صورة الإسلام المتسق مع الطبيعة الإنسانية التي تنشد العيش المشترك على اعتبار أن الدين لله والأرض للجميع. استطاع أهل الهوس تحويل قوة الإيمان عند بعض الشباب إلى طاقة محرضة على الكراهية والحقد وفي نفس الوقت استغلت الوعود الدينية كحور العين وشبكتها مع الشهوات الدنيوية لتحولها إلى وقود للقتل والتدمير. إن الدعوة إلى الحوار مع الأديان الأخرى ليست مجرد محاولة لإظهار الإسلام بصورة لامعة ولا تهدف إلى تنقية الإسلام مما علق به من تشوه وليست في الوقت نفسه موجهة للآخر فقط. إنها فعل تاريخي يتحمل مسؤوليته ملك هذه البلاد حيث يعمد إلى ترجمة حقيقة الإسلام ومبادئه وتحويلها إلى واقع قائم. فالإسلام كما تعبر عنه كتبه وأدبياته عبر التاريخ هو دين تعايش وحضارة كاملة ضمت في داخلها كل هذه الأديان التي تنوي اليوم التحاور معها.
الحوار كما يريده الملك عبدالله هو صقل القيم الإنسانية المشتركة والتأكيد عليها. هو حديث صريح بين بشر سبق أن تعايشوا في ظل الإسلام نفسه. لن يوفر هذا الحوار لأي من الأطراف الفرصة للدعوة والتبشير أو للتنافس وإنما سوف يكون أرضية مشتركة. استطاع البشر من خارج الدين أن يضعوا دساتير وقوانين تؤسس للسلام والتعايش المشترك دون أن يتخلى أي طرف عن حقه في ممارسة حياته بالصورة التي يراها صحيحة. جاء اليوم لتنتقل الراية إلى علماء الدين للقيام بنفس الشيء. الحوار في واقع الأمر بقدر ما هو موجه للخارج هو أيضاً موجه للداخل. سيتعلم أبناء الإسلام المعزولون كيف يقبلون الآخر دون أن يتبع ذلك تنازل عن مبادئهم أو قيمهم.
فاكس: 4702164
Yara.bakeet@gmail.com