من اللاوعي استدعيت حسن كعجينة صلصال، سأكتب حسن، حسن الذي تقوقع بعد أن مضغته المدينة ثم لفظته كحشرة، شاكسني حسن كثيراً، كان قد ألف التوحد مرغماً، توحد في عتمته.. في منفاه، يتلذذ بجلد ذاته البائسة...
من على طاولتي تناولت قلم الرصاص ونشرت الورقة، انتزعت حسن من عمق التوحد... قاومني، جحظت عيناه... محمرتان، قاسيتان، حاول أن يتكسر حروفاً مبعثرة... ن..ح..س، سلم حسن مكرها بعد أن وقع أسيراً في قيدي..
سأشكلك يا حسن..
جسداً دون روح... شكلني
لكنك بطلي
قلمك رصاص.. سأمحو نفسي
سأمنحك البوح عبر نصي
من تكون لتخترقني..
ونقشت على ورقتي، حسن يذرع الشوارع، يتأبط ملفه الأخضر، تركله أبواب المصانع وكراسي الدوائر الحكومية، هدّه التنقل، تخطفه سيارات الأجرة صباحاً على عزف أغاني آسيوية، تلفظه ظهراً من عمق الزحام مهزوماً، مدحوراً، مل حسن من الإخضرار، من الشوارع وأبواب المصانع، تعلم الهروب إلى الشوارع الخلفية، تورمت قدماه من انتعال الأرصفة، سلقت الشمس ملفه الأخضر فغدا كورقة خريف يابسة، اصفرّ وجه حسن بعد أن احمرّ كثيراً وأهرق ماؤه، جيب حسن لم يعد يحوي شيئاً... فقط صورته التي تنسبه لأرضه.. اسمه وميلاده!!
في أحد أيام لهاثه وتورمه، تولى إلى ظل شجرة الكينا مقابل البحيرة، غاب صفار ملفه في كوم العشب جواره، تأمل البحيرة زرقاء تمتد أمامه، النوارس بيضاء تتناثر، تعابث صغارها، تغتسل وتهز أجنحتها، وعلى سعف النخل المصفوف في تناسق غربان تحط... تنعب في سوادها، في البحيرة تنمو دوائر صغيرة... تكبر ثم تتلاشى، وكلما تلاشت دائرة تُصنع أخرى على قذف حجر، تفزع النوارس بينما تظل الغربان غير عابئة، يسكن حسن فتصمت البحيرة، يتأمل انكساراته المتعاقبة، تسقط دمعة بحجم البحيرة.. مرة وحارقة...
- لماذا تفضحني...؟ يصرخ حسن من عمق السطور!
- أفضح المدينة!
- سأختنق...س..س..
- اهدأ.....
حاورت حسن كثيراً، قسوت عليه ليكتمل معمار نصي بناءاً، ضحيتي أنا أيضاً، تسلقته لأمنح نفسي شغف الكتابة، أقسم أنني أشفق عليه من نفسي ومن أبواب الصدود التي أهرقت حياء وجهه.... تأملته.... سألته،
- وماذا بعد يا حسن، هل عجزت هذه القلوب أن تمنحك بعض نقائها؟ بعض صفوها؟ أقسو عليك...أعلم، أشعر بالبؤس ووخز الأنا بينما أحشرك هنا مرغماً!... لم يجبني، غرق في توحده... في صمته...
ألقيت بقلمي الرصاص... كسرته، طويت ورقتي ثم حشرتها في صندوق بريدي، ضربت على أذني، كان صندوقي يئن، كأنما يرغب في التقيؤ.
* * *
شعرت بدوار وغثيان بينما أطالع نصي عبر صحيفتي، هرب حسن من قيدي، كان نصي مبتوراً، جسداً بلا روح، انسكب حسن كقطعة سكر تذوب وتذوب في (الرقية المكية)، هاهو يطير كحمام الحرم.. يغتسل من أدران التوحد والانكسارات المتعاقبة..
(صبحتها
والخير في أسمائها...
مسيتها
والنور ملء سماتها
حبيتها
بجلالها.....وكمالها.......وبميمها......و بكافها.....وبهائها
وغمرت نفسي
في أقاصي ليلها
فخرجت مبتلا بغيض بهائها
وطرقت ساحات النوى
حتى ظمئت إلى ثمالات الهوى
فسقيت روحي سلسبيلاً من منابع مائها
ونقشت اسمي في سواد ثيابها
وغسلت وجهي في بياض حيائها
وكتبت شعري قرب مسجد حبها
وتلوت وردي عند غار حرائها)
تجرد حسن من همه، من ذل الأبواب التي لفظته كيتيم، خرج من قوقعته عبر نصي ثم حلق كحمام الحرم المستكين...
بُعث حسن من جديد، هرب من أغلاله.. ليغتسل في قوافي..
(الرقية المكية)!!
الرقية المكية: قصيدة للشاعر محمد الثبيتي
* عضو أدبي جدة