Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/06/2008 G Issue 13034
الخميس 01 جمادىالآخرة 1429   العدد  13034

مسيرة الفكر القومي
أ.د. عبدالكريم محمد الأسعد

 

انبعث الفكر القومي في منطقتنا لإحلال الإلحاد في المجتمع العربي مكان الشريعة الإسلامية على وجه الخصوص، ولنبذ العادات الدينية الراسخة عند المسلمين منذ فجر الإسلام، ولتحقير القيم الاجتماعية الموروثة والسخرية منها، ولاستبدال كل ما له أدنى علاقة بالشرع الإسلامي، ولتغيير المصطلحات الإسلامية التي ألف الناس استعمالها أكثر من ألف عام، وقد استعمل أصحاب هذا الفكر - على سبيل المثال - مصطلح (تحية عروبيّة) أو مصطلح (تحية رفاقيّة) بدلاً من (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، ومنعوا كتابة (البسملة) على صدر المعاملات الرسمية ونحوها، وكرّسوا جهودهم لإعلاء العلمانية ورفع شان العلمانيين والحطّ من الدين وأهله، وعمدوا إلى التفرقة بين الأقليات غير العربية وبين العرب الذين تعايشوا معهم منذ مئات السنين تحت مظلّة الإسلام في محبة ووفاق.

لم يكن أحد من السكان يفخر بعرقه على أحد، ولم يوجد بينهم مَنْ يسعى إلى الإضرار بغيره من المواطنين، إلى أن عززت عقولنا الأفكار القومية، وحلّ بين ظهرانينا في الشام والعراق بخاصة القوميون الذين حفظنا في مدارسهم وردّدنا منذ طفولتنا أنشودتهم المفضلة:

بلادُ العُرْب أوطاني

من الشام لبغدان

ومن نجدٍ إلى يمنٍ

إلى مصر فتطوان

وترنّمنا في عنفوان شبابنا ببيت شاعرهم المتحمّس:

تقضي البطولة أن نمدّ جسومنا

جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا

لنستفيق ونعرف بعد أن بلغنا من العمر عتياً، وصقلتنا التجارب والمحن زيف هذا الشّعر ونحوه، وعقم البطولات الوهمية، ولنكتشف أن الألقاب القومية مثل (الرفيق المناضل) لا معنى لها، وأن الشعارات الثورية والأهازيج النضالية وهم كبير ليس له من الصحة أو الواقع نصيب، ولنستبين أننا عشنا فترة طويلة تدغدغنا الأساطير الجذابة والأوهام الخادعة التي ليس بينها وبين الحقائق (المرّة) أية صلة، فسقط بذلك الفكر القومي من نفوسنا وعقولنا سقوطا مدوّيا لا نهوض بعده. الوحدة العربية مجرّد مزاعم وهرطقات قومية، ومن الأدلة على ذلك مقاومة الكويتيين للغزو الصدّامي الذي أعلن أنه يهدف إلى (توحيد) الكويت مع العراق (بالقوة)، ومقاومة البوليساريو لضمهم وإلحاق صحرائهم بالمغرب الذي يسميه المغاربة الوطن الأمّ ويسمّيه الصحراويون الدولة الأجنبية المغتصِبة وإصرارهم على الانفصال والاستقلال، ومقاومة اللبنانيين محاولات السوريين المتصلة خلال خمسة وثلاثين عاما لدمجهم وإدغامهم في سورية وتسميتهم لهم بالمحتلين واحتفالهم بعد الخروج السوري العسكري بعيد الاستقلال الثاني بعد عيد الاستقلال الأول عن الفرنسيين، وامتناع مصر (أم العرب) عن السماح للفنانين (العرب) باعتبارهم أجانب بالعمل في مصر أكثر من عمل فني واحد في العام الواحد، وأخيراً الخلاف المعروف بين فتح وحماس على الرغم من أن الفريقين فلسطينيون ينتمون إلى قطر واحد، ومع ذلك ناصَب (الفتحاويون الرّملاويون) (الغزيون الحماسيون) العداء حين اختلفت المصالح والاتجاهات والأهواء السياسية بدون الالتفات إلى مقتضى الانتماء الواحد، فكانت الفرقة بدل اللقاء والتنابذ بدل التصالح، وهذا دليل قاطع على أن الوحدة التي لم تتحقق بين أفراد شعب واحد منكوب يتحدث بلغة واحدة وينتمي إلى مجتمع واحد له تقاليده المتطابقة الموروثة ويعاني في الوقت نفسه من مشكلة احتلال واحدة، لن تتحقق أيضا بين (أمم) عربية متعددة لها ثقافات متنوعة وتقاليد وعادات غير متشابهة ولا منسجمة وتحكمها قوانين مختلفة أو متضادّة وتنطق ألسنتها بلهجات بين كلّ منها والأخرى بَوْن شاسع وبُعْدٌ واسع.

لقد أنزل الفكر القومي الكوارث بالأمم العربية بعد أن تمكّن أصحابه من تفتيت ما سمّوه (الأمة العربية الواحدة)، ومن تحويل المواطنين في البلد الواحد إلى شيعٍ متصارعة وفرق متنازعة، وبعد أن رسَّخَ دعاتُه الكراهية والفرقة والشحناء بدلاً من المحبة والتقارب والصّفاء.

على العرب أن لا ينسوا أبداً المصائب التي حَلَّتْ بهم على أيدي الحكام القوميين وإصابتهم في مقتل، وعليهم أن يتذكروا دائما أن حكامهم هؤلاء قد قادوهم باستمرار إلى مهالك مروعة بسبب المشاكل الداخلية التي تسببوا بها وألهبوا أوارها والحروب الخارجية التي افتعلوها.

إن شعار (أمة عربية واحدة) شعار زائف، وإن أقصى ما يمكن أن يتطلع إليه عاقل ويطمح له سويّ ويطالب به صادقٌ مع نفسه ومع غيره ومواطِنٌ غير مضلل هو مجرد التنسيق الكامل - لا أكثر ولا أقل - بين (الأمم) التي تعيش على هذه الرقعة الجغرافية وتتحدث بالعربية، وعساه يدوم ولنا في التنسيق - من بعيد لبعيد - بين بريطانيا والولايات المتحدة اللتين تتحدثان لغة واحدة، وكذلك بين دول الاتحاد الأوروبي (المتجاورة) التي تتحدث بلغات مختلفة أسوة حسنة.

إن دعاة الوحدة في العوالم العربية هم في حقيقة الأمر أول من يدرك استحالة تسويق بضاعتهم الوحدوية بين (الأمم) العربية، ومن هنا يمكن أن نعدّهم جميعا أصحاب (دكاكين وسوبرماركتات ومُولات) حسب مستوى كل منهم، وهم بدون استثناء يتاجرون بالوحدة والتحرير والحرية والاشتراكية ونحو ذلك من (الهيملات) الدعائية والأوهام الخيالية، ويبيعون في متاجرهم الأحلام، ويكسبون من ورائها المال الحرام.

أنا أعرف ان كلامي لن يُعجب الكثيرين، وقد يتهمني بعضهم بأنني شعوبي أو بأني أخدم عن سابق تصميم وتصوّر، أو عن غفلة الامبريالية والصهيونية والرجعية والانبطاحية والزئبقية إلى آخر الأسطوانة المشروخة، وأنا أقول لهم (على وجه التحدي) إنني عربي، وإني لم أخدم ولن أخدم سوى الحقيقة بإظهارها كما أراها، وبالكشف عن الأوهام (في نظري على الأقل) حتى لا تغيب تلك وتسود هذه في المستقبل كما سادت في الماضي.

أستاذ سابق في الجامعة


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد