Al Jazirah NewsPaper Tuesday  03/06/2008 G Issue 13032
الثلاثاء 29 جمادى الأول 1429   العدد  13032
التوازن في المنهج النقدي عند ناصر الدين الأسد
د. حسن بن فهد الهويمل

يشكل منتصف العقد السادس من القرن العشرين منعطفاً مثيراً في حياة معالي الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد ومقطعاً مفصلياً في قضايا الشعر الجاهلي التي خاض لججها مستشرقون وعلماء ومتعالمون..

.. وللتو فرغت من دراسة طريفة عن كتب جنت على أصحابها كما جنت (براقش) على أهلها.

وللتو -أيضاً- استأنفت دراسة رديفة عن كتب خلّدت أصحابها، وهيأت لهم قدم صدق في مشاهد العلم والفكر والأدب، إذ في كل حقل معرفي تألق وانطفاء.

وقضايا الشعر الجاهلي استحوذت على اهتمام الأقسام الأدبية واللغوية في أعرق الجامعات العربية والعالمية، وكانت الهمّ الذي يساور المستشرقين، وبخاصة بعد البحث الذي كتبه المستشرق الإنجليزي (مرجليوث) تحت عنوان (أصول الشعر العربي) والذي ترجمه (يحي الجبوري) مشيراً إلى أن المهتمين لا يعرفون عنه ولا منه إلا ما نقله ناصر الدين الأسد في كتابه (مصادر الشعر الجاهلي).

ولقد كان دركُ الدراسة الأولى التي أعددتها كتابا (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، وذروة سنام الدراسة الثانية (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية) لناصر الدين الأسد، والملفت للنظر أن هذا المنعطف المهم في مسار دراسات الشعر الجاهلي تم على يد طالب لمّا يزل -آنذاك- في مراحل الدراسات العليا، والأسد الذي حفظ التوازن بين طه حسين وخصومه لم يكن على وفاق معه، ولكنه لم يتخذ سبيل خصومه الذين اختاروا ذات الخصم، فقتلوا سمعته، واستحيوا موضوعه وإنما اختار الموضوعية مسرحاً لجدله، فكان أن جرف الذات والموضوع معاً وذلك بتحريره لمسائل الخلاف وتأصيله لمعارف الموضوع، لقد أجهض حجج الدكتور طه حسين التي استقاها من المتداول الاستشراقي وألبسها حلّة بلاغية أخاذة خادع بها المتلقي، وتناول المصادر رد ضمني للغط المستشرقين، لقد أشار إلى التفاوت الحضاري في المجتمع العربي، وإلى تضافر الرواية والكتابة وتدوين الشعر وإلى طبقات الرواة، وتفاوتهم، وإلى إسناد الرواية، كما فكك ظاهرتي الشك المنهجي والانتحال عند المستشرقين ومن شايعهم من المحدثين، وأصول ظاهرة الانتحال عند المتقدمين، وأشار إلى أهم المصادر المتمثلة بالدواوين بشقيها والمختارات، وختم مرافعته بحصر دعواه بنوعين من الأدلة: عقلية استنباطية، وصريحة نصية، فكانت له الحجة البالغة التي دحضت المفتريات.

وافتراء المستشرقين استدعى لفيفاً من العلماء والأدباء، ورفع حدة المواجهة، وأنشأ معارك طاحنة، خلّفت عشرات الكتب، ومجيء دارس من خارج القطر المصري يهدِّئ الروع ويفك الاشتباك، ويأطر الجدل في مجاله المعرفي أعاد للمشهد النقدي المصري توازنه ومعقوليته، وكتاب المصادر يشكل منعطفاً مهماً في قضية الشعر الجاهلي، واكبته دراسات فنية ودلالية ولغوية أعادته إلى المشهد وطردت غربته. لقد كنت في مطلع شبابي مغرماً بالمعارك الأدبية والفكرية أحصيها عدداً وأعرف أطرافها وبواعثها ومآلاتها، وكنت أود لو كنت في معامها وإن كانت في ذمة التاريخ، وما كنت يومها أفرق بين الموضوعي والذاتي والعقلي والعاطفي ومن ثم لم يرحب صدري آنذاك لكتاب المصادر، لأنه يتوخى الموضوعية ويتفادى الصدامية وحين استبنت الحق أدركت أنه القول الفصل، وتبين لي أن للتاريخ مزابله وأن من المواقف ما يود الإنسان دسها في التراب خوفاً من أن يمسكها على هون.

لقد مر المشهد النقدي بمعارك مسفة من علماء أفذاذ في مجال الفكر والأدب تعقبها مؤرخون، أو جاءت في السير الذاتية، نجد ذلك عند مصطفى صادق الرافعي، وزكي مبارك والبهبيتي، وعبدالرحمن بدوي، ونجد ما هو أشد بين المجددين والحداثيين والإسلاميين والمستغربين واللبيراليين، ولو هيئ للمشاهد من يأطر الأطراف في محيط القضايا ويتوفر على شروط الحوار والاجتهاد لكان للمعارك أثرها المعرفي الذي لا يسامى.

وناصر الدين الأسد خاض مع الخائضين ولكنه أحسن الدخول وجدّد أسلوب التعامل الحضاري، فكان شامخاً في تقديره وتوقيته وتدبيره، وكتبه الحافلة بمختلف المعارف، وأنواع القضايا التي خلّفها وراء ظهره استأنفت عمره الثاني الأكثر خلوداً والأبعد انتشاراً.

لقد تقدمت به السن، وفضل أن يريح مطاياه، وهو إذ يركن إلى الهدوء يتحرك كل كتاب حبّره وأودعه عصارة أفكاره ليستأنف المسيرة من جديد، وأحسبه سيظل حاضراً بكل كتاب أخرجه للناس وبكل كلمة أطلقها في المحافل، وحظه السعيد إنه كما جسم المتنبي الذي وزّعه في جسوم كثيرة.

لقد كان حقله في مكتبتي موقعاً أروده كلما فرغت لتحرير مسألة أو لتأصيل معرفة تتعلق بالأدب العربي، فهو الموضوعي الذي لا تعصف به العواطف والمنهجي الذي لا تشتته الموضوعات، ومن ثم شكل مدرسة أدبية تتسم بالعقلانية والأخلاقية والموضوعية والرؤية الواضحة والنزاهة والدقة ونصاعة الأسلوب وإذا كان البعض يوصف بصاحب الوزارتين فإن ناصر الدين الأسد الوزير والسفير والرئيس والعميد جماع المسؤوليات كلها والمتألق فيها كلها.

وكم كان بودي أن أخبر حياة الاستثنائيين ففي حيواتهم فوائد جمة، وناصر الدين الأسد من أولئك فهو الكاتب والشاعر والناقد والمحقق والدارس والإداري المحنك، عاصر العمالقة وغشى صالوناتهم وكانت له معهم ذكريات كشف عن أمشاج منها، ولو أنه تقصاها لكانت مهوى الأفئدة ومسرح الأفكار وعسى أن يمتد معه العمر ويسعفه الجهد ليبدي ما خفي من علاقات مع عمالقة الفكر والأدب لأنه جماع ذلك كله.

لقد مني المشهد المعرفي بما سمي بأمية التخصص، وعرفنا عمالقة في فرع من فروع المعرفة، ولكنهم أميون فيما سواها، والقليل من العمالقة من يمسك بطرفي التخصص والثقافة بحيث يعرف كل شيء عن شيء وشيئاً عن كل شيء، وهكذا نجد الأسد إذما أجرى قلمه في شأن إلا كان ابن بَجْدتِه، ويكفي أن يقرأ المتابعون كتابه (نحن والآخر صراع وحوار) لقد أصل لأوضاع الأمة العربية مع الغرب وكأنه يكتب قوانين اللعبة السياسية حيث جاء بنيان السياسة من القواعد حين تحدث عن اتفاقية (سايكس بيكو) بوصفها فاتحة الشر لتشرذم الأمة العربية وتجرعها مرارة الفرقة والتناحر، وبلغ الذروة حين تناول العولمة والهوية بوصفها زبدة اللعبة المتعددة الأبعاد، وهو فيما بين هذا وذاك المتمكن الأمكن في القول والعمل، ولو لم تتخطفه المسؤوليات لحقق نقلة في حقول معرفية شتى. والأسد بوصفه مغرماً بالتأسيس المعرفي فقد انطلقت دراساته من تخوم الأدب العربي، ولربما أوحت له رسالته عن القيان والغناء في العصر الجاهلي بما هو مجال جدل عميق بين المستشرقين وحماة التراث العربي، وهو المصادر بوصفها تقطع قول كل خطيب، وإذ تناول لداته من خلال دراساتهم الأكاديمية (الماء، والمرأة، والإبل، والطرد، والصيد، والأطلال، والرحلة وسائر الأغراض والفنون) فإن الأسد حاول برسالته سد الذرائع ودرء المفاسد التي نفذ منها (مرجليوث) ومن اقتفى أثره من المغرمين بمناهج الغرب وأهدافهم المشبوهة، وتناولاته المبكرة والمسددة تتسم بصفات ثلاث أشار إليها وهي: الجمع والتحقيق والدراسة، حتى لقد أخذ على كتاب الأغاني، وهو أضخم موسوعة أدبية حسوه للمعارف حسو الطير وهي إشارة إلى تجافي الأصفهاني عن الشعر الجاهلي الذي استحوذ على اهتمام ناصر الدين الأسد منذ مرحلة الطلب بدافع الغيرة على محارم الأمة العربية.

والأسد ككل العمالقة المؤثرين على المشهد الأدبي والنقدي حظي باهتمام طلابه والمعجبين بآرائه، ومن ثم لم يكن غائباً عن المشاهد العربية، والدراسات التي أقيمت حول أدبه وشاعريته ومنجزه المعرفي تنطوي على لفتات بارعة، ويكفي أن نحيل إلى كتابين ل(مي مظفر) تناولت حياته وأدبه، وتجسيره الفجوات بين القديم والحديث، وكتاب (أحمد المصلح) (ناصر الدين الأسد ناقداً وشاعراً) وكتاب (أحمد العلاونة) (ناصر الدين الأسد.. العالم المفكر والأديب الشاعر).

ذلكم هو ناصر الدين الأسد بقية جيل العمالقة.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد