Al Jazirah NewsPaper Saturday  31/05/2008 G Issue 13029
السبت 26 جمادى الأول 1429   العدد  13029

صالح المالك ذلك الذي بان محموداً حين ودّعا
د. جاسر بن عبدالله الحربش

 

لم أكن وثيق الصلة جداً بالدكتور صالح بن عبدالله المالك رحمه الله، ليس لصعوبة الوصول إليه والتواصل معه، فقد كان الفقيد قلبا مفتوحا على مصراعيه وصدراً جياشاً للجميع. وإذن فالأمر يعود لي وإليّ، ذلك أنني أحاول قدر الإمكان كفّ نفسي عن الذي لا يكاد يجد الوقت لنفسه وآل بيته لكثرة معارفه ومخالطيه، ولتشعب مشاغله الاجتماعية واهتماماته الثقافية والمعرفية.

كان -رحمه الله- مشغولاً دائماً بما هو أنبل وأعمق من حديث المجاملات والسؤال العابر عن الحال والأحوال.

لكن، ورغم ما قلته آنفاً، فلقد كنت - يعلم الله- أتابع أخباره أيام سرائه بإعجاب صامت، مثل ما تابعت أخباره أيام ضرائه بألم مكبوت لم أكن أعبر عنه أو أبينه لأحد، لأن ذلك غير ذي جدوى.

وبعد، فإن الذاكرة عن الإنسان والزمان والمكان قد تختزن من أيام الطفولة واليفاع ما هو أنقى صورة وأصدق انطباعا مما قد تلتقطه فيما بعد ذلك من مراحل العمر.

بناء على هذه الفرضية أستطيع أن أجزم أن إعجابي الحقيقي وتقديري الدفين للمرحوم يعود إلى فترة الطفولة الغابرة والعابرة، حيث كنت وأنا أصغره بسنوات قليلة أراه مختلفاً عنا معشر الأطفال واليافعين جميعاً.

لست أدري لماذا.. ولكن ما التصق بذاكرتي من تلك المرحلة هو أننا كنا جمعيا نجري ونصخب ونثير الغبار مثل أسراب الجراد في أزقة مدينتنا الصغيرة (الرس)، وكانت وجوهنا غبراء شهباء مثل كل ما هو من حولنا.. وفي عيوننا كلنا ذلك الخبث الطفولي الذي يختزن مقداراً محترما من القدرة على الكذب والاحتيال واختلاق الأعذار أمام الكبار.

كنا في نظري جمعيا كذلك.. إلا الطفل الرفيق الرقيق صالح بن عبدالله المالك -رحمه الله-.

يا الله.. كيف لا أستطيع أن أذكر أنني قد رأيت صالح المالك يجري صارخاً مزعجاً مغبراً ومثيراً للتراب من حوله مثلنا نحن معشر أترابه وأسنانه. كان -رحمه الله- حتى وهو طفل محفوفاً بالسكينة والوقار، لا يعرف الغضب والكذب والصراخ.. ربما كانت تعلو وجهه لموقف ما وللحظات عابرة تعابير حزن أو انزعاج أحيانا، لكن السماحة والبشاشة والابتسام كانت السمات الغالبة على ذلك الوجه الجميل الذي عبر كطيف لطيف.

ولأن الشجا يبعث الشجا، فقد ذكرت مرثية متمم بن نويرة لأخيه مالك، ويا لغرائب الصدف، فالفارس الميت آنذاك كان (مالك)، وفارس اليوم من آل (مالك).. كان مالك الأمس من أهل (الرسيس) ومالك اليوم من أهل الرس، وكلاهما على مرمى حجر في بطن حزن واحد.

ولأنني لست شاعراً مثل متمم بن نويرة، فإنني -مضطراً- استلف منه بعض أبياته للاستذكار والاعتبار، حيث يقول:

وعشنا بخير في الحياة وقبلنا

أصبن المنايا رهط كسرى وتبعا

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

فإن تكن الأيام فرقن بيننا

فقد بان محموداً أخي حين ودّعا

نعم.. لقد بان أبو هشام محموداً حين ودعا.. اللهم ارحمه يا أرحم الراحمين.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد