نجم أفل، وضياء خبا، ونور انطفأ، وصوت عذب انقطع، ونشاط متميز توقف، ونغمة شاعر خفتت. أجل نجم أفل من أفق مجتمع أصدقاء وزملاء ومحبين، بله أهل وأقرباء، افتقدوا مع أفوله بسمة عذبة اعتادوا عليها، وصوتاً صادقاً يتحرى الحق والصواب، فيدفع به، ويدفع عنه. افتقدوا بفقده رأياً صائباً، ودفاعاً لا يفتر عن حيّز اللغة: نحوها وبلاغتها، وأصولها.
وافتقدوا بفقده ضياءً، كان يلقي أشعته على المسائل المدلهمة، فيبدِّد دياجيها، ويكشف غامضها، من واقع ملكة حبا الله صاحبها بها، معضَّدة بتجربة طويلة، مكنته من أن يكون الصعب عنده سهلاً، والمعضل في جوانب الحياة يسيراً، وسواء كانت الشدة في النظام أو في العلم، أو في الشعر، أو في أمر من أمور المجتمع العريض المنداح.
= = =
وافتقدوا فيما افتقدوا نوراً كان يسير أمام صاحبه ليدله على سبل الخير، وطرق الرشاد، في سيره في هذه الحياة، بدروبها المتشعبة، وجوادها الضيقة، وتقلباتها المتتابعة.
وافتقدوا فيما افتقدوا صوتاً عذباً، يحكمه الهدوء، وتحيط به النغمة المحببة الأخوية الصديقة، التي يتميز صاحبها بالرزانة والسكينة، ويحرص على النفع لغيره مثلما يحب الشيء لنفسه.
وافتقدوا فيما افتقدوا نشاطاً كان بارزاً واضحاً لكل عين مبصرة، نشاطاً أوصل صاحبه إلى بحر من التقدير المتناهي، والاعتراف الوافي بما يبذل في سبيل المجتمع، وما يؤدي من الأمانة الموكولة إليه في عمله، وفي مجتمعه، مع ولاء مقدر، وإخلاص مرحب به ومعترف.
وافتقدوا فيما افتقدوا صوتاً، أحد نغماته شعر أخوي، من أهدافه وضع الإصبع بحنان على موضوعات الساعة، وما تفاعل منها مع النفس، وتجاوب مع نبض القلب، وخفق الضمير.
= = =
معالي الأخ الدكتور صالح بن عبدالله المالك كان بيننا ملء السمع والبصر نعزه ونجله، ونقدر ما قدم، ونعترف بكفايته ومقدرته، وتواضعه، وحبه لمن حوله. ما عرفه عارف إلا وجد فيه مثال الأخوة الصادقة، ومراعاة الزمالة.
اختار -رحمه الله- طريقة في الدراسة في علوم تخدم اللغة وعلومها، وتنمي الفكر، وتعلي قدره، وتكرمه كما كرمه ربه. دخل -رحمه الله- المعاهد وتخرج منها فرس رهان، وبدأ مسيرته في الحياة وكان له في وزارة الشؤون البلدية والقروية مجال لإظهار الكفاءة، فأظهرها، ونجح في أن جعل له بصمة سوف تبقى، ثم حظي به مجلس الشورى، عضواً فيه، وبقي فيه يؤدي عمله المتميز أقصى مدة يسمح بها النظام. ولتميزه وتقديراً لجهوده، واعترافاً بكفاءته، لم يدعه المجلس يُبعد عنه، فقد رأت الدولة -وفقها الله- أن يبقى فيه مقدراً، فجعلته أميناً عاماً لمجلس الشورى.
آخر صلة أدبية له مع أحبائه إهداؤه إياهم، وهو على فراش المرض، كتابه (إخوانيات) وكان حَظِّي إهداؤه لي نسخة منه، وسوف يُذكرني كل حرف فيه به -رحمه الله-.
ثم جاء يوم الحق، اليوم الذي اختاره الله إلى جواره، فودعناه في منتصف الأسبوع، بقلوب خاشعة، وعيون دامعة، وأنفس حزينة، مسترجعين ذكريات تجعله مقيماً في داخل النفوس التي تحمل له كل تقدير وإعزاز، وتذكره تلك النفوس، وتدعو له بالرحمة والغفران، وتدعو أن يجعله الله في جنته مع عباده الصالحين، وأن يعظم الأجر والعزاء لأهله وأصدقائه ومحبيه.
و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.