«الجزيرة» - الرياض
تأتي أهمية المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار بمكة المكرمة من خلال الشواهد العالمية اليوم في عودة الدين كمقوم أساس في الحضارة الإنسانية المعاصرة، وذلك بعد عقود عديدة سيطرت فيها الأيدلوجيات الإنسانية على مناحي الحياة في كثير من المجتمعات البشرية، فكان الحصاد مراً، إذ رزحت الإنسانية تحت أقسى الحروب وأفتكها، ولم يشفع لها التقدم المادي والتقني في أن تسعد الإنسان الذي فتكت به السموم، وأضنته موجة الانحلال الخلقي، وهدد بسوء مستقبله التفكك الأسري.
إن هذه الصور لا تخطئها عين تقرأ الإحصاءات العالمية عن ارتفاع عدد حالات الانتحار ومراجعي العيادات النفسية، وكذلك الارتفاع الحاد في نسبة الجرائم والطلاق والإجهاض والإدمان. وهذا التوصيف وإن كان ينطبق في الدرجة الأولى على مجتمعات غير مسلمة، فإنه لا يمكننا التعامي عن نصيب مجتمعاتنا المسلمة من دخان وقتار هذه الأيدلوجيات التي أثرت -ولعقود- على العديد من دولنا الإسلامية، وأرخت بذيولها المقيتة على الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وأمام هذا الواقع المرير -الذي من أهم أسبابه تغييب الدين والتنكر له- بدأ العقلاء يرون المخرج من هذه الأزمات باستعادة الدين ومؤسساته دورها في الإصلاح وقيادة المجتمعات الإنسانية، وقد عبر عن هذا الاتجاه تنامي الصحوة الإسلامية في المشرق الإسلامي وتصاعد اليمين في مختلف الصعد في شرق الأطلسي وغربه.
وهكذا فكما أكد الجميع على خطورة وويلات العولمة، فإنهم تطلعوا إلى الدين كمنقذ وكأمل وحيد يمكنه تقديم الكثير من الحلول الناجعة التي تحول دون سقوط المجتمعات الإنسانية في المزيد من وحول الانحلال والفساد.
إن البشرية التي يغرقها طوفان العولمة اليوم تتطلع إلى رحمة من الله تستنقذها من أمراضها وترشد إبداعها الحضاري والتقني إلى ما فيه صلاح الجنس البشري وسعادته، ولتستعيد ما تفقده من مقومات تميزها وتكريم الله لها، بسبب بعدها عن معرفة ربها وعن العمل وفق مرضاته تبارك وتعالى، ولا حل لها إلا بأن تصيخ السمع بعقل رشيد لنداء ربها (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)(طه: 123-124).
إن الإسلام هو دين الله الذي يملك مفاتيح لحل أزمات الإنسان اليوم، والأمة المسلمة مخولة بتقديم الدواء لأدوائه، بما تملك من تجربة حضارية رائدة تجعلها قادرة على التعايش مع المدينة الجديدة، وحراسة تطورها بأخلاقيات الإسلام وشرائعه (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(16)(المائدة 15-16).
والرسالات الإلهية السابقة تمتلك رؤى لا يمكن تجاهلها تجاه التحديات المعاصرة، فهي تشترك مع غيرها في مسعاها لتقديم الحلول الناجعة لأزمات الإنسان والتحديات التي تواجهه، وهي تتقارب مع النظم الإسلامية أو تتباعد عنها، بقدر ما تمتلك من بقايا الحق الذي آتاه الله الأنبياء وأنزله في الكتب.
وأيضاً فإن الفلسفات الوضعية المعتبرة تمتلك بعض المشترك الإنساني، حين تنادى مؤسسوها إلى الدعوة إلى فاضل الأخلاق، واجتناب الرذائل والمشين من الأخلاق والسلوك.
ويمكن الاستفادة من نقاط التقاطع مع هؤلاء وأولئك، وتطويرها من خلال الحوار المعمق لتقترب أكثر فأكثر من الهدي الرباني الذي يقدمه الإسلام لهذه المشكلات، والذي يمتاز بالشمولية والمثالية الواقعية وأيضاً بالتسامي على الهوى والأنانية والنزعات الاستعلانية بصورها العرقية والإقليمية.
إن حاجتنا إلى الحوار مع الآخرين لا تقل عن حاجتهم إلينا، فالحوار بالنسبة للأمة المسلمة امتثال لأمر إلهي (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل 125)، فبالحوار يمكننا تعريف العالم بديننا وحضارتنا، فلكم سمع العالم عنا من أقلام وأفواه أساءت للإسلام عمداً، وآن أوان سماعه لنا، فالحوار فرصتنا للتعريف والبلاغ الذي هو مهمة الأنبياء والمرسلين.
وبالحوار والتعاون مع الآخرين يمكننا تطويق الكثير من إفرازات العولمة الوافدة بقوة إلى مجتمعاتنا، ولن يكون بوسعنا وحدنا مواجهة طوفانها، ولا تحصين مجتمعاتنا من شررها المتطاير حولنا.
وبالحوار يمكننا تهميش القوى التي ما فتئت تحرض على الإسلام وتعتبره عدواً للحضارة تستعدي عليه القوى المختلفة، فتنال تارة من مقدساته ورموزه، وتشكك أخرى في إنجازاته التاريخية وتجربته الحضارية الفريدة عبر الدعوة إلى صراع الحضارات الذي يبشر به بعض المفكرين مدفوعين بعقد الكراهية والتشاؤم والأنانية والاستعلاء على الآخر.
إن الحوار أصيل في ثقافتنا، وتطبيقاته في القرآن والسنة أكثر من أن تحصى، فالقرآن أوضح معالمه وأصوله ومبادئه، بل ومحظوراته، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم كان المثل الأعلى في ترجمة هذا النهج وتحقيقه، وعليه فدعوتنا اليوم إليه ليست ضرباً من الابتداع، بل استجابة لأمر قرآني واقتفاء لهدي نبوي واعترافاً بواقع التنوع وضرورة التعاون بين المختلفين، فالله عز وجل يقول في كتابه الكريم مخاطبا نبيه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(سورة آل عمران، 64)، وفي آية أخرى يدلنا القرآن الكريم على منهج هذا الحوار: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت،46).
وعلى هذا المنهج كتبت أولى الوثائق الدستورية في صدر الإسلام، فقد جاء في صحيفة المدينة المنورة: (وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس)، وفيها أيضاً: (ويهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. وأن بطانة يهود كأنفسهم إلا من ظلم وأثم) وقد تحاور الرسول صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران برئاسة أسقفهم أبي الحارث.
ولن يحول دون الإقدام على الحوار بعض الممارسات الخاطئة التي كرست مفهوم التبعية للأقوى، وحققت كذلك الأهداف المريبة التي يحملها البعض في مشروعات الحوار التي يتبنونها، مما طبع المتابعين لهذا النشاط بالكثير من مشاعر الخيبة واليأس، وتخلف المسلمين التقني المادي ليس مبرراً للوقوع في تلك الأخطاء والانجرار إلى الحوار بتلك الطريقة. ولن تتغير هذه الحال إلا بوقفة جادة تدرس تجربة الماضي، وتستشرف آفاق المستقبل، وترسم ملامحه بنقلة جذرية تنتفض فيها الأمة المسلمة فتطلع على سابق تجاربها، وتستلم العبر والدروس منها، ثم تتقدم للمبادرة إلى طلب الحوار مع الآخرين ضمن الشروط والضوابط الموضوعية العادلة.
ومن هنا تأتي أهمية المبادرة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وتأكيده على أهمية الحوار ودعوته إليه في القواسم المشتركة مع المجتمعات الأخرى، وتأسيس العلاقات النموذجية على أساس الاحترام المتبادل خاصة في عصرنا الحالي الذي يتسم بالصراعات والأزمات.
وتجاوباً مع هذه المبادرة الكريمة ينعقد المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار (في جنبات مكة المكرمة وبحضور لفيف من العلماء والمفكرين، ليتدارسوا ويقوموا التجربة السابقة، وليؤسسوا لمرحلة جديدة وفق رؤية متكاملة لمشروع الأمة في القرن الحادي والعشرين للتعريف بالإسلام وعبر جهاد الكلمة، وعبر الحوار.
إن ثمة تساؤلات ملحة يتوقع أن يجيب عنها هذا المؤتمر الكبير: هل نؤمن بالحوار وسيلة في التفاهم مع الآخرين أم نعتبره استجابة (تكتيكية مؤقتة) لمؤثرات واقعية؟ ثم ما هي الضوابط الشرعية التي نؤوب إليها في حوارنا؟ وكيف نمارسه مع اختلاف برامج مؤسساتنا المعنية بالحوار وأولوياتها؟ ومع من نتحاور؟ هل ننفتح بحوارنا على الحضارات المختلفة أم نقصره على أتباع الأديان الكتابية؟ وهل الحوار في المشترك الإنساني يؤول إلى فكرة التلفيق بين الأديان أم أنه يؤسس لتعايش وتعاون بين ثقافات متمايزة وفق القاعدة القرآنية (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (6) سورة الكافرون.
إن هذه الأسئلة وغيرها هي موضوع المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار، والذي يعول عليه لتوحيد موقف الأمة المسلمة، ولوضع خطة مشتركة، تحدد للحوار أهدافه ومراميه في كل ما يحقق الأغراض التي توخاها الإسلام.
ومن الأهمية ملاحظة المنطلقات التالية:
أولاً: أساس الرسالات الإلهية كلها الدعوة إلى إخلاص العبادة لله والسعي لإسعاد البشرية مما يوجب على أتباعها التعاون على البر والإصلاح، من أجل خير الإنسانية جمعاء.
ثانياً: مخاطبة الوجدان الإنساني وحث المخلوقين للعودة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى جوهر ما دعت إليه رسالات الله التي تنزلت على أنبيائه.
ثالثاً: تشجيع الأعمال التي ترسخ القيم المشتركة بين بني الإنسان وتحث على حفظ الكرامة الإنسانية والصدق والعدالة، والعمل على ترقيتها وصونها.
رابعاً: التعاهد على ترسيخ الأخلاق الفاضلة ومنع أسباب التفكك الأسري صوناً للمجتمع وحماية له.
خامساً: مواجهة الإلحاد في المعتقدات، والإباحية، والظلم والاضطهاد.
سادساً: الحرص على التعايش السلمي والتفاهم الاجتماعي والتعاون المدني بين المسلمين والمسالمين من غير المسلمين، خاصة حينما تجمعهم ديار واحدة.
ومن أهم ما يسعى هذا التجمع الكبير لرواد الأمة ومفكريها لتحقيقه:
- التأكيد على أصالة مفهوم الحوار مع الآخرين في القرآن والسنة والنبوية، وإبراز ضوابطه وآدابه، واستلهام العبر والأحكام من معين الأصول الإسلامية.
- دراسة الإشكالات المتعلقة بمسائل الحوار، وتقديم الأجوبة الشرعية المرشدة لتحقيق مقاصد الشريعة ومصالح الأمة المسلمة.
- دراسة تجارب الحوار في العقود الخمسة الأخيرة، والوقوف على إخفاقاتها وإيجابياتها، ووضع خطة جديدة موحدة للنهوض بمستقبله وتطويره من خلال تجميع الخبرات السابقة والإفادة منها.
- التنسيق بين المؤسسات الإسلامية المعنية بالحوار، ووضع آلية يمكن من خلالها توحيد الصف الإسلامي والظهور أمام الآخرين بموقف الند، وإصدار ميثاق إسلامي شامل تلتزم به كافة الجهات الإسلامية التي تمارس الحوار.
- دراسة وسائل استثمار الحوار بالتعريف بالإسلام وتصحيح الصور المغلوطة عنه، وتقديمه أنموذجاً قادراً على معالجة كافة التحديات التي يحار العالم اليوم في التصدي لها.
- إصدار نداء إسلامي موجه للآخرين يبين الرؤى التي تملكها الأمة المسلمة تجاه الأزمات المعاصرة.
- تقويم جدية الجهات المحاورة، ودراسة إمكانية فتح قنوات حوارية جديدة مع مختلف الفئات المؤثرة في مجتمعاتها.
- تعزيز جهود الهيئات والدول الإسلامية في توجهها لإنشاء مراكز للحوار مع الآخرين، مع التأكيد على الالتزام بالضوابط الشرعية.
المحاور:
المحور الأول: التأصيل الإسلامي للحوار، ويركز على تحديد مفهوم الحوار وأهدافه وأسسه ومنطلقاته في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع النظر في تجارب الحوار الحضاري عبر التاريخ.
المحور الثاني: منهاج الحوار وضوابطه، ويعالج المشاركون من خلاله إشكالات الحوار ومحظوراته وتحديد آلياته وآدابه.
المحور الثالث: مع من نتحاور؟ وهم أطراف الحوار من أتباع الرسالات الإلهية وأتباع الفلسفات الوضعية المعتبرة، وسيناقش المشاركون في هذا المحور مستقبل الحوار في ظل الإساءات المتكررة للإسلام.
المحور الرابع: مجالات الحوار، وهي عديدة تشمل شؤون الإنسان وإصلاح حال المجتمعات البشرية، وعلاج ما يتعلق بصراع الحضارات والسلم العالمي، إلى جانب مخاطر البيئة، وقضايا الأسرة والأخلاق في المشترك الإنساني.
الشخصيات المدعوة: يشارك في المؤتمر شخصيات إسلامية من مختلف الدول الإسلامية والأقليات المسلمة، يمثلون هيئات الإفتاء والإدارات الدينية والمراكز والاتحادات والروابط الإسلامية، كما يشارك قادة ووزراء ومفكرون وعلماء من مختلف القارات.