أُصيب جوالي بالسَّكتة القلبية .. حاولت إسعافه بالطرق المتعارف عليها، ولكنه ويا للحسرة لم يستجب، وبقي غافياً في مكانه ..
ما حدث أنّ زجاجة العطر في حقيبتي أُصيبت بشرخ حاد فاندلقت دون أدنى تردُّد على أرض الحقيبة، حيث كان صاحبنا الجوال متمدداً، وما أن داهمه العطر حتى التقطه (كنجدي) جائع آخذاً في التهامه حتى الثمالة .. وهاهنا وحين مددت يدي إذا هو
يترنّح (مسطولاً) من أثر الصدمة، وبدا وجهه في الاصفرار التدريجي ..
أدركت أنّ حاله حرجة فأسرعت بحمله واحتضانه ..... ربت عليه بمنديلي علّه (ينشف) بعضاً من خطايا قلبه .. لكنه نظر إليّ في إشارة ضوئية خافتة وابتسم في عتاب
بدأ نوره في الاختفاء التدريجي، وبدا لي أنّ من الأجدى ربما أن أدعه ينام بسلام لهذه الليلة حتى تستقر أجزاؤه،
وها هو أمامي ممزق الأحشاء ما بين بطارية تائهة وجسد لا قلب له.
كيف أجد لدى أحدهم العون لاستعادة ذاكرته الجميلة .. هذه الذاكرة التي ملئت عبر الأيام برسائل الأحبة وأرقامهم؟؟؟؟
في اليوم التالي .... التقطت جوالي التعب .... اقتحمتني رائحة العطر النفّاذة ... ما أجملك..! كيف لم يبدأوا ببيع جوالات معطرة مع حمي الصناعات السريعة في عالم الجوال؟!
يجب أن أعترف .... أكاد أشعر بالضياع دون هذا الصغير الذي يلملم قلقي في كل مرة .. غادرتني الأرقام والأسماء، وبدا أنّ علاقتي بالعالم من حولي تكاد تضطرب .. هل يمتلك هذ الجهاز كل هذه السيطرة ومتى سمحت له أن يحتل كل ذلك من عالمي؟؟؟
بدأت أستعيد هذه العلاقة المريضة مع الجوال, أدركت أنها بدأت تترسّخ كسلوك اجتماعي مقبول لدى الكثيرين منا، مما حفرها كقيمة وسلوك في ثقافة مدنيّة غير واضحة. الجوال هو المنقذ في كثير من اللحظات القلقة .. إننا نحمي أنفسنا على سبيل المثال من تلصُّص الآخرين بزرع أعيننا في الجوال نعبث به ونستعرض محتوياته ... إننا لا نحتاج إلى الحديث دائماً مع من يقلق عالمنا المرتّب فنتجنّب المواجهة برسالة قصيرة .. إننا حتى لم نعد نذهب لنعايد بعضنا واحتلّتنا عوالم الرسائل لنبعثها ونرسل مثلها في الميلاد والزواج والخطبة، وربما قريباً في التعزية!
حتى صغارنا التقطوا الطعم وهم يمشون بخيلاء مبرزين جوالاتهم ... فمن معه أحدث نسخة من النوكيا ومن يستطيع التحدث لفترة أطول وهاهم الصغار يغادرون عالمنا التواصلي الإنساني، فيدسّون عيونهم داخل ألعابه لتكفيهم شر التورط الإنساني وهم تعلّموا لعبة العبث المدرسية باستخدام طواقي الإخفاء الكثيرة التي يعتمرونها في المدرسة لإخفاء جوالاتهم، رغم القوانين المدرسية التي تمنعه وقد تجرمه في مدارس البنات، لكن هل يستطيع سعودي حتى لو كان طفلاً أو طالباً التنفس إلاّ من خلال الجوال!!!!!
أظن أننا ربما الشعب الوحيد الذي يأكل ويرقص وهو يستخدم الجوال في نفس الوقت، فهو على الطاولة وعيوننا تعي إشارته الضوئية الهامة فنمضغ الطعام، لكن عقولنا الباطنة مشغولة برسائل هذا الصغير وهمهماته، والفتيات في الأعراس والمناسبات الاجتماعية يتمايلن أمام قريباتهن وصديقاتهن على أنغام الموسيقي، وقد يحدث (وقد رأيته فعلاً) أن يزعق الجوال فتجيب وجسدها الغض يتمايل مع رنينه حيث ترقص!!!!
الرجال السعوديون على وجه التحديد لديهم قدرات عقلية خارقة في التعامل مع الجوال، وخاصة أثناء قيادتهم لسياراتهم، فهم عقلياً اعتادوا أن يتخذوا قرارات سريعة أثناء القيادة للتحرك والتخاطف ما بين الإشارات الضوئية وملء الفراغات المكانية، مع عقد مناقشات ثقافية أو تجارية أو شخصية مهمة في ذات الوقت، وكل ذلك بالجوال، لا يضاهيهم في ذلك ربما إلاّ شباب منطقة الخليج، ولا أعرف في الحق إذا كانت المرأة الخليجية في الكويت مثلاً أو البحرين أو الإمارات ممن يسمح لهنّ بقيادة سياراتهن قادرات على التعامل مع الجوال بنفس الحرفية والمهنية العالية أثناء القيادة!
كلُّ هذه المهارات المتقدمة ونحن نعرف علمياً أنّ استخدام الجوال يزيد من نسبة الحوادث أربعمائة في المائة، وأنّ القانون يعاقب عليه ويمنع الآن استخدامه أثناء القيادة، لكن مسكينة هي القوانين التي تحاول التسلل عبر تعقيدات اجتماعية وحضارية لا نهاية لها، فكيف نهرب من أنفسنا إذا لم نشغلها بتحريك الجوال. كيف نهرب من رتابة اللحظات ودقاتها في عقولنا التي تذكِّرنا بذواتنا المغتربة التي غادرتنا القدرة على تعريفها دون علاقة بالآخر .... كيف نهرب من قلق الصمت المحيط حين نكون في قاعة انتظار لطبيب أو زيارة لمريض في مستشفى، وكيف نحمي عيوننا من اقتحام الآخر وتلصصه؟؟؟ بغرس أنفسنا أكثر وأكثر في رحم هذا الأخطبوط.
وربما لنعرف حجم المرحلة وعمقها التي تمكنت منا في علاقتنا بهذا المستبد، يجب استعادة فيلم تم تصويره وعرض على شاشة محطة عالمية لشخصية تجارية مهمة جداً .. رجل في منتهى الذكاء والقدرة على صنع المال ولا تعرف كم كان عدد الجوالات التي كانت محيطة به ولا عدد المرات التي أجاب فيها على هواتفه الكثيرة رغم أجهزة الاتصال الأخرى التي كانت تحيط به من كمبيوتر وإنترنت .. لكنه هذا الفنلندي الذكي الصغير (نسبة إلى شركة نوكيا الفنلندية) الذي لم يكن أي شيء في عالمنا قبل سنوات قليلة، وهاهو اليوم يحدد معالم النهار ويرسم حدود العلاقات الإنسانية ويبني بيوتاً ويهدم أخرى، ويستخدمه الشباب والشابات لتحطيم آخر معاقل الفصل بينهم رغم أنف المجتمع!!!
وكأنه لم يكن كافياً كل هذا التداخل والتدمير للذوات، فأصبح الجوال هو الطريق الأسهل والأسرع لنشر الانتقام وتعميمه عبر الفضائح الاجتماعية المصورة، وهو الطريق إلى خلق ونشر النكات السياسية، وهو كان أحد الوسائل الهامة التي أفقرت هذه الأُمّة بمساهمته في نشر كل هذه الشائعات والترشيحات حول السهم الفلاني والفلاني حتى وقعت الدولة، ووقعنا جميعاً متزحلقين وراءها وخلفها وأمامها عند حدود الستة آلاف للمؤشر!
وبعد ألا يستحق جهاز متغلغل كهذا لا في حياة الأفراد فقط بل في حياة أممهم أن نقف في توجل ونهتف بحياته مرددين .... آه أيها الجوال ما أعظمك!!!!!