استقبل المفكِّرون الليبراليون في بريطانيا كتاب (ضد تكافؤ الفرص) لمؤلِّفه (مات كانافاغ) بالانتقاد، لموقفه ضد مبدأ العدالة في سوق العمل، والذي يعتبر من المسلَّمات التقليدية في الغرب، وأحد أهم المنجزات التي تفخر
الحضارة الغربية بتحقيقها منذ ثورة حقوق الإنسان، وقد نتج عن ذلك خروج قوانين وأنظمة قضائية تحمي الأقليات وحقوق الطبقات الدنيا في الحالة الاجتماعية من طغيان الفئات التي تحرص على استغلال نفوذها من أجل الحصول على جميع الفرص .. كان عنوان الكتاب هو مكمن الإثارة للردود والنقد لمضمون الكتاب ... فالكاتب ربما قصد إثارة الرأي من خلال عنوانه المثير ضد مبادئ الليبرالية وأخلاقيات المجتمع الغربي في عصره الحديث ..
ينتقد المؤلِّف في كتابه فكرة (الجدارة) مشيراً إلى أنّها فكرة لا تتعلّق بالأخلاقيات والمثاليات على الإطلاق، فلو كنت الشخص المناسب لوظيفة ما، فإنّ ذلك يعتبر بالطبع سبباً وجيهاً لحصولك على تلك الوظيفة، لكن هذا لا يجعل لك حقاً أخلاقياً فيها. وهو يرى أنّ (التطبيق الحقيقي لمبدأ الجدارة بمعنى توظيف الأشخاص استناداً إلى قدرتهم على أداء الوظيفة وحسب، ويطرح على سبيل المثال اختيار شخص معيَّن للقيام بوظيفة عامل في منتزه، فهنا قد يكون الشحاذ أجدر بالتعيين في هذه الوظيفة من طالب جامعي يبحث عن عمل أثناء فترة العطلة الصيفية, فإذا تمسّكنا بمبدأ تكافؤ الفرص بشكل مثالي، فإنّ الطالب الجامعي الأكثر تأهيلاً سوف يفوز بفرصة العمل على حساب الشحاذ الأكثر حاجة للعمل) ..
مبدأ تكافؤ الفرص يختفي تماماً في عالم المسلمين، برغم من أنّ مبادئ الدين الإسلامي تأمر بتحقيق العدل في الحياة الدنيا، ويظهر البون الشاسع بين النظرية والتطبيق جلياً في فعاليات المجتمع المسلم، فنحن أُمّة تصرخ من على المنابر من أجل الفضيلة، لكن الواقع يجري في اتجاه آخر ..
يتضح ذلك في التباين الواضح في عدم تكافؤ الفرص في المجتمع (الإسلامي)، فالتفاوت في منح فرص العمل بين الجنسين عالية جداً بسبب عدم احترام حقوق المرأة في الحياة العملية، كذلك يبرز ذلك في اتجاهات الإقليمية والفئوية المهيمنة على المجتمع، والتي تحرص على تقريب ذوي القربى للحصول على أفضل الفرص وعلى أعلى المراتب مهما كانت درجة سوء قدراتهم .. أو قصر خبراتهم في ميدان الممارسة العملية ..
سيجد المؤلِّف مبتغاه في واقعنا الذي ينتصر بجدارة ضد تكافؤ الفرص، فالكفؤ في بلادنا هو الأقرب وذلك الذي يحظى بالثقة أو تستحق عائلته العرفان والتقدير الذي يصبح حقاً للأبناء من بعد .. وهو بكل تأكيد مبدأ يبث الإحباط بين أولئك الذين غاب أجدادهم عن مجالس توزيع الثروة والمناصب، أو ربما لم يتواجدوا في الصفوف الأمامية في تلك الأزمنة ..
ما كان يريد إيصاله المؤلِّف أنّ السوق لا تحكمه المثاليات والأخلاق، وأنّ مبدأ الاختيار للموظف أو العامل الأنسب، أو مبدأ تكافؤ الفرص، هو حالة مثالية صعبة التحقيق وتفتقر للوضوح، وليس لطرحه علاقة بوصل الأقربين بالمعروف .. وان الأهم من تكافؤ الفرص هو إيجاد الفرص للجميع، ثم ترك القرار لصاحب العمل لكي يختار دون الالتزام بمبدأ التكافؤ .. لكن ما لا يوافق فلسفة المؤلِّف العملية في واقعنا، هو في الغياب التام للفرص في سوق العمل المحلي، وهذه حقيقة مفادها أنّ ما يجري لدينا ليس فقط فشل في مكافحة مبدأ تكافؤ الفرص، ولكن في ما هو أهم من ذلك، وهو خلق الفرص الكافية لتلبية مطالب الأفراد في العمل ..
كثيراً ما يلفت انتباهنا تلك الأعداد الهائلة من المواطنين والتي قد تقدّر أحياناً بالآلاف، من أجل المنافسة على خمسين وظيفة أو أقل من ذلك في أحيان أخرى .. لن يكون في هذه الحالة أي مجال لمحاولة تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص، فالعرض لا يتناسب مع الطلب، وستكون الغلبة في النهاية للأكثر قدرة على التأثير على صاحب القرار ..
الزاوية الأخطر في هذه المعادلة، أنّ الفرص في سوق العمل المحلي ليست قليلة بل هي مؤهلة لتحطيم الرقم القياسي في العالم، لكنها ليست للعرض، أي لها قنوات غير مرئية، فالمواطن يخسر سنوياً فرص عمل لا حصر لها أمام وفود القادمين الجدد للسوق المحلية، وبدون حق الدخول في المنافسة على هذه الفرص .. مئات آلاف من فرص العمل في الأسواق المحلية تخرج سنوياً، ولكنها ليست للمواطنين ...
نستقدم سنوياً مئات الآلالف من العمالة لشغل وظائف جديدة في محلات تجارة البيع والشراء والخدمات .. البقالات وسيارات الأجرة ومواد البناء والملابس وأسواق الذهب وأسواق الكمبيوتر والاتصالات والتقنية الحديثه، وغيرها من الفرص الهائلة في الأسواق التي تزداد يومياً في مختلف أنحاء الوطن ..، وبرغم من استعداد كثير من المواطنين للعمل في هذه المهن، إلاّ أنّها تظل (سرية) ولا يتم الإعلان عنها، مثلما يحدث مع بعض الوظائف المحدودة في المؤسسات الحكومية والشركات الكبرى ..
لا أجد تفسيراً مقنعاً لهذه السرية في تمرير فرص العمل للوافدين من الخارج، وهل هو تطبيق أممي لمبدأ العدالة في الدين وأن الوطنية وثنية ليس لها رصيد في عمل المرء..؟!، أم أنها تمثل أهدافاً تجارية بحتة لا تعترف بأممية العدالة الإسلامية أو بوطنية فرص العمل، ولا تتفق مع مبدأ حق المواطن أولاً في الحصول على فرص العمل ...