يسحب سنواته السبعين وعصا، وتاريخاً أذاقه من صنوف العجائب حتى أودى به إلى محكمة في جزء منها عدالة وبقية التفاصيل هي مشاهد من مسرحية.
يقف فوقها طارق عزيز الأكاديمي المشذب، كمدعو محرج دخل حفلة لا يعرف بها أحداً.
وجهه الهرم لا يمتلك تلك النظرة الدموية والأشداق التي تقطر بدماء القبور الجماعية التي كانت على سحنة التكريتيين الذين سبقوه في المحاكمة.
الأقلية الكلدانية المسيحية نشأت كنبت (بقل) ضعيف وسط نخيل حاضرة الخلافة الإسلامية، وكشأن أفراد الأقليات لا يجهرون بالقول، لا يشرعون تفاصيلهم، بل يستظلون بجدار قوي. ولسوء حظه، ولعله كان في يوم ما لحسنه، كان جدار الكلداني المثقف أستاذ الجامعة...... صدام حسين .....
وتقلبت به المراتب مع السنين في بلاط الخليفة الدموي حتى انتهى به الأمر ليجد أنه قد رشق كرقم خطير فوق ورقة للكوتشينة الأمريكية الشهيرة.
كان عزيز هو الواجهة الدبلوماسية الرصينة للعراق؛ فهو يوم يحلق إلى نيويورك, واليوم الآخر الذي يليه يكون قد وصل إلى بوابة الكرملين في موسكو، يواجه الرأي العام العالمي بثبات وتماسك ولغة أكاديمية معشقة بالمقولات الفلسفية قادرة على أن ترمم وتخفي جميع ندوب الحكم في العراق آنذاك. هو قادر على أن يتقافز فوق حبال السياسة العالمية برشاقة دون أن يقع، ودون أن تقتنصه مصيدة أو كمين إعلامي.
ولكن عندما تهاوى الجدار الذي كان يستظل به، وجد نفسه وحيداً إلا من صفير الرياح وولولتها عند مرورها فوق القبور الجماعية.
طارق.... عزيز قوم الكلدان.... الذي تقلبت به أرجوحة الزمان ما بين عروش السلطة نزولاً إلى أقبية السجون.
وهاهو يقف على الصراط في محكمة الدينونة، لا يستطيع أن يقول هاؤم اقرؤوا كتابيه؛ لأنه لا يملك كتاباً خاصاً به؛ كل ما لديه هو زئير سيده الراحل وصولاته وخطبه وكتبه ورواياته.
شيخ مريض معتل، غاض ماء الحياة من وجنتيه، ولم يبق هناك سوى حطام رجل كان من الممكن أن يكون أكاديمياً وباحثاً متوارياً بين قاعات الجامعة وممراتها، لكن طارق حنا عزيز... إحدى روايات الليالي العربية اختار بوابة المغامرة، وهي أن قادته إلى نافورة بلاط خليفة عامر في بداية الرحلة، ولكن في نهايتها أفضت به إلى معتقل دامس.
محاكمة هذا الرجل لن تمنح الحكم في العراق صولجان العدالة أو إكليل النصر، هي حتما ستكون محاكمة لأشباح غابت ولم يبق منها سوى صفق أبواب أطلال وبقايا.
اتركوا طارق عزيز يمضي أيامه الباقيات بسلام؛ فلم يكن سوى قفاز حريري مثقف يغطي به خليفة العراق الراحل يده الملوثة بالدماء.