..جزء من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما مات ابنه إبراهيم، حيث قال (العين تدمع، والقلب يحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي الرّبَ) ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة.
فقد تألمت عندما هاتفني أخ كريم صباح الثلاثاء 21-5-1429هـ، وبعد السلام، بادرني بالقول: هل اطلعت على الجزيرة؟ قلت: عادتي لا أقرأ الصحف وقت الدوام، وإنما مكان ذلك عند الراحة في المنزل.. فهل فيها شيء جديد؟ قال سأختصر لك عن موضوع يهّمك.
وبادرني بالتّعزية في أخي معالي الدكتور: صالح بن عبدالله المالك، فأعتصر قلبي، وتألّمت لا جزعاً من الموت لأنّه حقّ، وإنما لمكانة معالي الدكتور - تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته، ولما عرفته مع مسيرة حياتنا، منذ مقاعد الدراسة، ولما يتّصف به من خصال نبيلة، ثابتة فيه لا تتغيّر، وللمفاجأة فقد عانا - رحمه الله - من المرض، مدّة طويلة، وكان صابراً محتسباً: أثناء العلاج في الداخل والخارج، ألمس هذا منه، عندما أتحدث معه هاتفياً، قوّة الإيمان، والرّضا بما أصابه عن ثبات ويقين، لا يتبرم ولا يشكو إلا شكراً لله، وحمداً له يعين كلّ الصابرين، كما بشّرهم الله به.. راجين أن يكون ما أصابه تكفيراً وأجراً، إذْ يلمس محدثه وزائره تسليم الأمور لله، وذلك منه صبر وشكر.
وكأنه - رحمه الله - يتمثّل بما حصل لأحد الصحابة، الذي قال في مرضه: طبيبي أمرضني وهو أعلم بحالي.
عرفته - رحمه الله - على مقاعد الدراسة، في المعهد العلميّ بالرياض، أخاً وفياً، وطالباً مهذباً، بخلقه الفاضل، وأدبه الجمّ، جاداً في دراسته طموحاً يتطلّع إلى الأمام في دراسته، متواضعاً في تعامله، فكسب بذلك صداقات ومعارف، فكان حيياً محبوباً، عفيف اللسان هادئ الطبع.
لأنّه يحب الخير لكلّ من حوله، وينصح لمن يسترشد به ليمحضه نصحه، من منطلق الحديث: (أحب لأخيك ما تحبّه لنفسك) وكان من ذكائه الفطريّ اهتمامه بالعلم، واستشراف المنازل العليا منه.. في أيّ مصدر متاح.. إذْ كان جاداً لا يشغله عن العلم، ولا دروسه أيّ شاغل من مغريات الحياة ذلك الوقت وهي قليلة.. وهذان من ذكر بعض محاسنه وفقاً للحديث: (اذكروا محاسن موتاكم).
فكانت البداية للمدارس الليلية، متاحة ذلك الوقت فتشجّع نخبة من الطلبة للدراسة المتوسطة، ثم الثانوية، في تلك الفرصة المتاحة، وكان هو من أوائل الملتحقين، وشجّعني إلى الجمع مثله: بين دراسة الليل، والانتظام في النهار، ولكل من المرحلتين منهجها وعلومها.
وهذا من تطلعاته - رحمه الله - التي يحثّ عليها إخوانه تشجيعاً وترغيباً.. لكنّه تطلع لما سَمَتْ إليه همّته، فالتحق بجامعة الملك سعود منتظماً، مستسهلاً الصّعب، حتى يدرك لنفسه أمنياتها، التي تحققت مع الصبر والمثابرة، والعزيمة الثابتة.. ثم بعد أن: حصلت له بعثة دراسية لأمريكا للماجستير والدكتوراه.. فقد طلب مني نسخة من مؤهلاتي، لكي يأخذ لي قبولاً في الجامعة التي يدرس فيها.. ولمّا ترددّت لأنّه حصل لي ابتعاث لبيروت لمدة عام..
فكانت صلته ومشورته لا تنقطع، حتى أنّه يجعل قدومه عن طريق بيروت من المملكة وإليها، من أجل الإبقاء على العلاقة والحثّ على ترغيبي، موضحاً ما مرّ به - وهو الرجل الجاد في دروسه وكل أموره - مع المصاعب، وكان من أحاديثه المستمرة ونصحه وتشجيعه، عدم التّخوف من مجتمع بعيد عن مجتمعك، إذْ تلقائياً ما يتأقلم الطالب المهتم بدروسه بمجتمعه الجديد.. ويضرب لي نماذج بحالات مرّتْ عليه، منها معاناته في بداية الأمر مع اللغة الإنجليزية، وقال ذات مرّة وبصراحته المعتادة: إنّني أبكي هناك قبل أن أتأقلم في الجامعة من اللغة خاصة وكدت استسلم لخواطر النفس، لكن بالمصابرة، ومع الاعتصام بالله وحمده وشكره.. بدأت تتفتح الأمور أمامي، كلّما ازداد فهمي للغة.. فتوكل على الله، وكن جازماً حازماً.
واعترف بصدق: أنّني كنت اطمئن لنصائحه، التي هي من قلب ناصح ومخلص.. ولمّا أُبْدي له بعض التّسويفات، كانت كلمته التي عهدتها منه، حتى آخر أيامه (يا أخوي محمد) لا تنظر لأقوال الناس وعليك أن تأخذ من العلم، بأكبر قسط تستطيعه.. لأنّ الفرصة المتاحة لجيلنا، لن يحظى بمثلها أجيال بعدنا، فكان رحمه الله، ينصح ويبذل جاهه، ويبدي استعداده للمساعدة.. ليقول: إن الإنسان مدنيّ بطبعه، ولا يوجد من لا عنده طموح.. لكنّه في حاجة لمن يدفعه ويشير عليه، فأنا أكرر النصح لك والمشورة.
ومن رابطتي به: دراسة وبعد الحياة العملية، ثم رابطة أخوّية، فإن شخصيته ثابتة، وأخلاقه التي فطرها الله فيه، لم تتبدل، ومحبّة الخير والمنفعة للآخرين، تتزايد عنده، وغيرها من الخصال الحميدة فيه.
إن السجايا التي عرفتها في معاليه ثابتة ومتأصلة، كأنها خُلِقَتْ معه لتلازم حياته، ولم ألمس منه في يوم من الأيام نيسان الرابطة القديمة، والتذكير بمواقف فيها.. من باب الإيناس والاستئناس، بل طالما كان يستذكر ويسأل عن بعض الزملاء في المراحل التّعليمية المتعدّدة، ليطمئن على أوضاعهم، وهذا من الوفاء، في عصر عزّ فيه الوفاء..
وعندما يتطرّق الحديث إلى زميل لم يحالفه الحظّ في مواصلة الدراسة، كان يسألني عن أولئك واحداً واحداً، إذْ عندما كان في وكالة البلديات، يساعد أمثال هؤلاء في العمل، ويحثَّهم على مواصلة الدراسة ليلياً أو انتساباً، حتى يتحسّن وضعهم الاجتماعي، ومع ذلك فهو سخيّ اليد والجاه غفر الله له.
وفي تجميع المعلومات في رسالته للدكتوراه كنت معه نجمع بين الحديث وتجميع بعض المعلومات من مظانّها، وبين التجوّل في أحياء الرياض، لرابطة هذا بدراسته..
ولئن خَلَتْ الساحة من هذا الفاضل وأمثاله، فإن العزاء للمجتمع في ما تركوه من أعمال وبصمات وأخلاق، وفي دعاء الناس الحاضرين للجنازة صلاة وتشييعاً وتكاثرهم فإنهم شهود الله في أرضه، أسكنه الله فسيح جناته وألهم ذويه وبنيه وعارفي مكانته الصبر والسلوان.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.