من الناس من تعرفه ببَدنِه، تلقاه وتجلسُ معه، وتبادلُه أطراف الأحاديث. ومنهم من لا تراهم إلا لِمَاماً، وفي مناسبات عابرة، وإنما تصلك بهم أعمالُهم ومسؤولياتُهم التي تمَسُّ حيوات الناس،

وتؤثر فيها وتحببهم إليك إنجازاتهم الرسمية والعلمية والتطوعية، وقد يكونون أكثر لصوقاً بك لتوارد اهتماماتهم مع ما تعانيه ولتشابه الرغبات، ومن ثم لم أكن قريباً من الفقيد أبي هشام معالي الدكتور صالح بن عبدالله المالك، ولكنني أقرب إلى همِّه وتفكيره من حبل الوريد، وإذا كانت الأرواح تتقارب وتتآلف فإن الأفكار والهموم تختلط وتتعانق، وتخلق ألفة وتجانساً.

لقد عرفت الفقيد من خلال أطروحاته الثقافية والعلمية والاجتماعية التي استثمر فيها المعرفة والتجربة معاً، وكان بارعاً في تجنيدها لترشيد مسار المؤسسات المدنية، لا سيما أن الدولة تتجه بكليتها صوب المأسسة والمدنية، وإذ منحه الله ذكاءً وجلداً ودقة ملاحظة فإنه قد وظف ذلك كله لمشاطرة المسيرة. والمتابع لمنجزه العلمي يدرك أنه معني باستثمار المعارف وتوظيفها لشد عضد المسيرة الوطنية، وكل المتوفرين على المواقف لا يقفون حيث تكون المعلومة، ولكنهم يتجاوزون بها إلى حيث يكون الاستثمار والتوظيف، وتلك سمة النابهين الواعين لمهماتهم في الحياة.

لقد مارس العمل والتعليم ودخل مجلس الشورى في بداياته، وواكب دوراته الثلاث إلى أن شرف بالثقة الملكية الكريمة ليكون أميناً للمجلس، وخلال عمله في مختلف المواقع كانت عينه على كل المرافق يرصد حراكها، ويسهم في ترشيد مسارها مستثمراً إمكانياته المعرفية وخبراته العملية المتنوعة وثقافته المتعددة المصادر، لقد حمل هموماً كثيرة وكبيرة كانت بحجم طموحات وطنه، وإسهاماته خارج قبة المجلس مؤشر وعي ثاقب لمتطلبات المرحلة، وكم كان بودِّي لو أمهله الأجل ليفيض على المشهد الثقافي بذكرياته وتجاربه وممارساته الشورية وتنقلاته بين أروقة الجامعات وسائر المسؤوليات، نقول: (لو).. وإن كانت تفتح الأبواب على سراب القيعان.

والفقيد الذي غاب ببدنه يوقظ ما ترك من كتب ودراسات وسمعة طيبة ستصل ما انقطع برحيله. لقد رحل في أوج تألقه، وبارحنا من قمة مسؤوليته، فله منَّا الدعاء الصادق بالرحمة والمغفرة، ولأبنائه وأسرته الكريمة الصبر والسلوان، وما مات من خلّف، (والذكر للإنسان عمر ثاني).. كما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في أعقاب قوله: